ربما سمعت عن المسيحيين الصهاينة أو ما يُعرف بالإنجيليين الصهاينة، تلك الكتلة الدينية الضخمة التي تُعدّ من أكثر التيارات تأثيرًا في السياسة الأمريكية المعاصرة، وخصوصًا في كل ما يتعلق بدعم إسرائيل. لكن خلف هذه الحركة تقف منظومة فكرية ولاهوتية نشأت قبل أكثر من قرن ونصف، وأنتجت دينًا سياسيًا جديدًا يقوم على قراءة حرفية لنبوءات الكتاب المقدس المزعوم.
اليوم، يقف الرئيس السابق دونالد ترامب على رأس السياسيين الذين حصدوا ثمار هذا التيار؛ إذ يناصره ما يقارب ستين مليون إنجيلي أمريكي، يشكّلون قاعدة انتخابية صلبة له، ويؤمنون بأن حماية إسرائيل وتوسيع حدودها من النيل إلى الفرات هو تكليف إلهي “كما وعد الله إبراهيم” وفق مزاعمهم، متجاهلين أن العرب والمسلمين ينحدرون من نسل إسماعيل ابن إبراهيم.
بذور الفكرة: جون نلسون داربي
في القرن التاسع عشر، ظهر القس الإنجليزي جون نلسون داربي (18001882) ليؤسس ما يُعرف بـ التدبيرية (Dispensationalism). داربي قسّم التاريخ إلى عصور إلهية متعاقبة، ورأى أن لكل عصر خطة مختلفة من الله للبشر. أبرز ما قدّمه كان فكرة “اختطاف الكنيسة” قبل الضيقة الكبرى، مع إعطاء إسرائيل دورًا محوريًا في خطة الله لنهاية الأزمنة. تلاميذه نقلوا هذه الأفكار إلى الولايات المتحدة، حيث وجدت أرضًا خصبة للتحول إلى حركة جماهيرية.
سكوڤيلد: تحويل اللاهوت إلى كتاب مدرسي
جاء بعده القس الأمريكي سايروس إنجرسون سكوڤيلد (18431921)، الذي أصدر “الكتاب المقدس المفسَّر لسكوڤيلد” (1909). هذا العمل لم يكن مجرد ترجمة للكتاب المقدس، بل إضافة هوامش تفسيرية تربط بين نصوص العهد القديم وقيام دولة إسرائيل وعودة المسيح. انتشرت طبعات الكتاب بالملايين، وصار مرجعًا أساسيًا في الكنائس الإنجيلية الأمريكية طوال القرن العشرين، واضعًا الأساس لوعي ديني يرى الشرق الأوسط مسرحًا للأحداث النهائية.
ليندسي: النبوءة في زمن الحرب الباردة
في سبعينيات القرن العشرين، جاء المبشر الأمريكي هال ليندسي (مواليد 1929) ليمنح هذه الأفكار طابعًا جماهيريًا. كتابه The Late Great Planet Earth (1970) ربط النبوءات بالحرب الباردة، الاتحاد السوفيتي، وأحداث الشرق الأوسط. بيع من الكتاب أكثر من 30 مليون نسخة، ليصبح الأكثر تأثيرًا في نشر “ثقافة نهاية العالم” عند الإنجيليين. ومنذ ذلك الحين، تحوّل دعم إسرائيل إلى قضية مركزية في الوعي الإنجيلي الشعبي والسياسي.
من اللاهوت إلى السياسة
لم تكن هذه الأفكار لتبقى حبيسة الكنائس لولا أن وجدت دعمًا مباشرًا من الحركة الصهيونية والدولة العبرية لاحقًا. فالصهيونية رغم نشأتها العلمانية أدركت مبكرًا أن التحالف مع الإنجيليين الصهاينة يمنحها أكبر قاعدة دعم شعبي وسياسي في الولايات المتحدة. ومع صعود تيارات اليمين المسيحي في الثمانينيات، أصبح دعم إسرائيل “اختبارًا إيمانيًا” لأي سياسي جمهوري، وهو ما جسده ترامب بأوضح صورة.
دين سياسي يعيد تشكيل الجغرافيا
هكذا انتقلت المسيحية الصهيونية من تنظيرات داربي في القرن التاسع عشر إلى قاعدة انتخابية حاسمة في القرن الحادي والعشرين. لم تعد مجرد لاهوت، بل تحولت إلى دين سياسي يُسخّر النصوص المقدسة لخدمة مشروع قومي محدد، ويمنح إسرائيل غطاءً دينيًا داخل أقوى دولة في العالم. ومع كل انتخابات أمريكية، يتأكد أن تأثير هذه الحركة ليس عابرًا، بل قوة صاعدة تُعيد تشكيل العلاقة بين الدين والسياسة والجغرافيا في الشرق الأوسط.