المستقبل السوري الغائم.. سما الإخبارية
انتهى حكم عائلة الأسد الذي امتد لأكثر من نصف قرن، ودخلت سورية حقبة جديدة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، لكن المؤكد أنها لن تكون سهلة، وستتسم بالكثير من عدم الاستقرار والصراع الداخلي. المستقبل الذي ينتظر سورية يبدو غائماً، وتبدو المرحلة صعبة ومقلقة؛ لأنها تأتي بعد أكثر من نصف قرن على حكم الرجل الواحد وبطش وقمع سيظلان مثلاً بارزاً في سيرة الدكتاتورية العربية لأجيال لاحقة. لكن المؤكد أن ما سيجري في سورية لن يعني التخلص بشكل كامل من المرحلة الصعبة، وأن ثمة مرحلة أكثر رحابة تنتظر سورية، لا أحد يعرف تحديداً، لكن أيضاً لا أحد يستطيع أن يقول إن سورية ستكون بخير.
لقد شكل الصراع من أجل إسقاط نظام الأسد، وتحرير سورية من قبضة حكمه، مدخلاً لصراعات إقليمية وتدخلات مختلفة كانت سورية ساحة لها، شمل ذلك تسليح مجموعات، ووجوداً عسكرياً أجنبياً سواء كان روسياً أو أميركياً، وضخ تمويل ودعم مادي هائلين. وعلى مدار قرابة عقد ونصف العقد من الزمن تم تمزيق البلاد تحت رايات مختلفة، وكان النظام للسيطرة على جزء كبير من الأراضي فقط، وبنيت دويلات صغيرة مختلفة. صراع وراء صراع، وحرب أهلية مستمرة، زادا معاناة السوريين الذين كانوا ينتظرون زوال النظام مثلما زالت الكثير من الأنظمة العربية عقب الربيع العربي. وبصرف النظر عن تقييمنا لما جرى في بلدان أخرى، التي نجحت الجماهير أو التدخل الخارجي (الناتو في الحالة الليبية)، فإن المؤكد أن السوريين كانوا يتطلعون للتخلص من الأسد من أجل أن تعود لهم دولتهم، ومن أجل أن يعيشوا حياة كريمة ويمارسوا حقوقهم السياسية التي حرمهم منها نظام الأسد. لم يسبق لأي نظام غير ملكي أو أميري أن قام رئيس بتوريث ابنه إلا في حالات الدكتاتوريات المطلقة. على الأقل في المنطقة العربية لم يكن هذا ممكناً. حتى حين كان يتم الحديث عن إمكانية توريث مبارك لنجله جمال، كانت النخب المصرية تستبعد ذلك ويبدو لها مستحيلاً، والرجل لم يقم بذلك رغم بعض المؤشرات التي اعتبرت خطوة على طريقة التوريث، إلا أنه لم يحدث. فقط في سورية قام الأسد بوضع ابنه بشار الذي ربما كان سيقوم بتوريث ابنه هو الآخر.
لقد عانت الدولة العربية من سوء الحكم، ومن الاضطرابات والانقلابات العسكرية طوال عقود. ويصعب تخيل دولة عربية لم يحدث فيها انقلاب خلال القرن العشرين أو بعد ذلك، كما يصعب الحديث عن ديمقراطية عربية حقيقية بشكل كامل، رغم أن وضع معايير كاملة للحكم الديمقراطي تبدو توجهات لفرض معايير تتخذ من النموذج الأوروبي مركزاً لها. بشكل عام، فإن غياب الدولة وغياب المواطن عن الدولة جعل الدولة في المنطقة العربية ملكاً للبعض، وحرم الأغلبية من ممارسة حقوقها. هذا هو الحال في الكثير من البلدان العربية، وكانت سورية في قلب كل ذلك.
ولكن أيضاً مرحلة ما بعد إسقاط النظام لم تكن ناجحة بشكل كبير في الدول التي تم فيها التخلص من النظم القمعية والدكتاتورية. لقد اتسمت مرحلة ما بعد الربيع العربي بتمزيق الدولة العربية وتفتيت وحدة أراضيها، وثمة نماذج صارخة، وتحولت إلى عقدة سياسية لا يمكن حلها مثل الحالة الليبية والحالة اليمنية. أيضاً لا يمكن لهذه الإشارة استبعاد الحالة العراقية حيث جهود تمزيق الدولة لم تتوقف، وحيث تمكنت جماعات مثل «داعش» من إقامة دولة لهم على بعض أراضي الدولة التي تم تفكيكها. كذلك الحال في سورية قبل دحر نظام الأسد. وبشكل عام، فإن تجربة ما بعد إسقاط النظام في المنطقة العربية لا تبدو مشجعة.
لقد اتسمت هذه المرحلة بتفكيك الدولة، وبملاحقة كل ما له علاقة بالنظام القديم، ولم تأخذ بعين الاعتبار حساسيات الوضع والتكوينات المجتمعية المختلفة. مثلاً في العراق تحت حجة تفكيك البعث، تم تفكيك الدولة وتم تمزيقها إرباً، وقامت جماعات مختلفة بالسيطرة على الكثير منها، بل إن البحث عن بناء الأمة أو الشعب تم على حساب بناء الدولة، ولم تكن ثمة توجهات موحدة للقوى المختلفة لبناء دولة قوية. ظلت الدولة تعاني رغم أن السنوات الأخيرة تشهد استقراراً ملفتاً، لكن الثمن الذي دفعته العراق كان كبيراً ومؤلماً. والحال كذلك في اليمن التي لم تعد يمناً واحداً وليبيا التي تتصارعها دولتان. تذكروا، فإن التدخل الخارجي في مرحلة ما بعد سقوط النظام يكون أسوأ منه في مرحلة ما قبل سقوط النظام. تكثر المطامع والبحث عن ترك أثر بعيد المدى. في ليبيا، فإن دور إيطاليا وتركيا مثلاً ساهم في تعزيز الانقسام في النظام السياسي الليبي الذي لم يتشكل بعد. لقد عاني الشعب الليبي، وعانت الدولة الليبية، من تأثير القوى الخارجية سواء عبر التدخل المباشر عسكرياً أو من خلال دعم طرف على حساب طرف آخر. وبدلاً من بناء الدولة، تم تفكيك الدولة التي كانت موجودة أيام القذافي، ونشأت على أنقاضها كيانات متصارعة. الوضع زاد سوءاً، وصارت فترة النظام القمعي تبدو أكثر بريقاً في نظر الكثيرين.
هل ينتظر سورية مستقبل مثل هذا؟ يصعب الجزم، ولكن يصعب نفي إمكانية حدوث هذا. إن ما تحتاجه سورية الآن هو فتح حوار وطني شامل حول المستقبل وحول سبل بناء الدولة، والحذر من تفكيك الدولة بحجة تطهيرها من نظام البعث والأسد، رغم أن محاسبات ومحاكم وطنية يجب أن تعقد لملاحقة مجرمي التعذيب، ولكن يجب أن يتم الأمر ضمن فهم مستقيم للعدالة الانتقالية، والحاجة لتعزيز ثقة المواطن بمرحلة ما بعد سقوط النظام، لأن الشعور بعدم اليقين بالمستقبل وعدم الثقة بالقادم يدفع نحو النزوع لظهور تسليح الأقليات والصراع المناطقي والطائفي.. حمى الله سورية من كل ذلك.