اخبار

القمم العربية ومسألة إعادة إعمار غزة..

مرة أخرى، يعود الحديث عن إعادة إعمار غزة ليشغل الأجندة السياسية العربية، لكن هذه المرة في ظل واقع أشد قسوة، حيث الدمار الشامل يفرض نفسه، والضغوط الدولية تتزايد، فيما تحركات القوى الإقليمية لا تزال تدور في ذات الحلقة المفرغة من المشاورات والمساومات. فعقدت، أمس، قمة عربية مصغرة في الرياض، وتعقد في أوائل الشهر القادم القمة العربية الطارئة في القاهرة، في محاولة لتقديم رؤية عربية تجاه إعادة إعمار قطاع غزة، لكن المسالة في جوهرها تحمل تساؤلات كبرى: هل نحن أمام مشروع إعمار حقيقي يرتكز على مقاربة سياسية واضحة أم أن الأمر لا يعدو كونه إعادة تقاسم النفوذ في غزة؟

لقد باتت المؤتمرات والقمم العربية أشبه بالمسرحيات المتكررة التي لم تعد تحظى باهتمام الشارع الفلسطيني والعربي، فكم من مرة اجتمع الزعماء، وكم من مرة تعالت الخطابات الرنانة، لكن النتيجة دائماً كانت المزيد من التهميش للقضية الفلسطينية، والمزيد من الانقسامات بين الفاعلين الإقليميين. فهل ستكون القمم الجديدة مختلفة؟
الشعب الفلسطيني، ومعه الشارع العربي، يدركان أن إعادة الإعمار ليست مجرد قضية مالية أو هندسية، بل هي في صلبها مشروع سياسي يُحدد ملامح المستقبل في غزة. وإذا لم تكن هناك رؤية عربية متماسكة تعالج جذور الأزمة، فإن إعادة الإعمار قد تتحول إلى مشروع هش، يعيد إنتاج نفس الأوضاع التي أدت إلى الدمار في المقام الأول.
تدور النقاشات حول «الخطة المصرية» التي يُفترض أن تكون محور القمة، لكن ما لم يُعلن بوضوح هو: ماذا بعد إعادة الإعمار؟ هل سيتم التوافق على صيغة سياسية جديدة لغزة، أم أن الهدف هو فقط إعادة بناء البنية التحتية، دون معالجة أزمة الحكم والانقسام الفلسطيني؟ وإذا كانت الخطة تستبعد «حماس» من المشهد، كما يُشاع، فهل تمتلك الدول العربية تصوّراً عملياً لبديل سياسي قابل للحياة؟
إن استبعاد «حماس» قد يكون مطلباً لبعض الدول، لكن الحقيقة أن غزة ليست مجرد قطعة أرض يمكن إعادة رسم مستقبلها في الغرف المغلقة، بل هي مجتمع حي له تعقيداته وتوازناته الداخلية. وبالتالي، فإن أي خطة تتجاهل هذه الحقائق لن تكون سوى وصفة جديدة لعدم الاستقرار، وربما لانفجار آخر في المستقبل.
تمويل إعادة الإعمار سيكون محورياً في هذه القمم، لكن التجارب السابقة أثبتت أن المال وحده لا يبني مستقبلاً، بل قد يتحول إلى أداة لشراء الولاءات أو تعزيز الانقسامات. بعض الدول الخليجية لن تقدم تمويلها دون ضمانات سياسية، بينما ستسعى أطراف أخرى لاستخدام الملف كوسيلة لتعزيز نفوذها الإقليمي. فهل سنشهد مقاربة جديدة تنطلق من مصلحة الشعب الفلسطيني، أم أن غزة ستتحول مجدداً إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية؟
التقارير الأممية تتحدث عن حاجة غزة إلى أكثر من 53 مليار دولار لإعادة الإعمار، وهو رقم هائل في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. ومع ذلك، فإن المشكلة ليست في توفير المال، بل في كيفية إدارته، ومن ستكون له اليد الطولى في توجيهه.
إحدى الإشكاليات الكبرى أن القمة العربية تنعقد في ظل مقترح أميركي صادم يقوده ترامب، يهدف إلى تهجير سكان غزة وإعادة بناء القطاع تحت إدارة أميركية، في سيناريو يعيد للأذهان نكبة العام 1948. والسؤال هنا: ما الذي ستقدمه القمة العربية الطارئة كبديل عملي لهذه الخطة؟
من الواضح أن واشنطن وتل أبيب لن تقبلا بأي مشروع عربي لا يتماشى مع مصالحهما، وهو ما يضع الدول العربية أمام اختبار حقيقي: هل ستتبنى رؤية مستقلة تعكس المصلحة الفلسطينية والعربية، أم أنها ستكتفي بدور المتلقي لما يُملى عليها؟
المطلوب اليوم ليس مجرد إعلان أرقام وتمويلات، بل رؤية سياسية واضحة تحدد مستقبل غزة، وتضع حداً لدوامة الحروب والإعمار المؤقت. إذا لم تقدم القمة الطارئة رؤية سياسية جريئة، فإنها ستتحول إلى حلقة جديدة من مسلسل الاستعراضات العربية، وستبقى غزة رهينة لرهانات إقليمية ودولية لا ترى في الفلسطينيين سوى ورقة ضغط أو غنيمة حرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *