في السياسة والعلاقات الدولية كما في الصراع على المعنى، لا مكان للانتظار الطويل في الزوايا، فمن لا يمتلك القدرة على صياغة المعنى، يفقد مع الوقت الحق في صياغة الوجود ذاته. ولا يكفي أن تكون صاحب حقّ، وإنما أن تكون حاضراً في اللحظة والزمان التي يعاد فيها صياغة المشهد. ولكن السلطة الفلسطينية تبدو اليوم خارج الزمن المعنوي والسياسي، وكأنها قرّرت الانسحاب إلى الهامش في لحظة تعيد فيها تعريف القضية الفلسطينية من جديد، وسط حرب إبادة تعرضت لها غزة واتفاق هشّ لوقف النار، وحراك أميركي – ترمبي محموم لرسم اليوم التالي.

فنّ السياسة ونظرية الدور تقوم على الفعل والمبادرة وانتزاع المواقف، لا على مراقبة الآخرين وهم يصنعون القرار. هذا بالضبط ما نراه اليوم من السلطة الفلسطينية، التي غابت طويلاً خلال الحرب، وتواصل غيابها حتى الحظة الراهنة والتي تشهد حراكاً أمريكياً يؤسس لرؤية استراتيجية في المنطقة. 

والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: أين السلطة الفلسطينية من كل ما يجري؟ لماذا لم تُشكِّل خلية أزمة تتابع التطورات، وتخوض معركة سياسية موازية للمعركة العسكرية؟ لماذا تنتظر الآخرين ليحدّدوا لها موقعها في اليوم التالي، بدلاً من أن تفرضه بنفسها؟. السلطةوعنوانها الكبير منظمة التحرير الفلسطينية، والتي ما زالت تُقّدم أنها الممثل الشرعي للفلسطينيين، تبدو وكأنها سلّمت دورها التاريخي طوعاً، تاركة الساحة مفتوحة أمام ترتيبات تُصاغ لغزة دون أن يكون لها فيها كلمة أو وزن.

هناك من يرى، ويجتهد وأنا منهم في قراءة الموقف، مدعياً، أن هذا الغياب ليس عجزاً بل سياسة مقصودة، وكأن غزة لم تعد تعني شيئاً للقيادة في رام الله. فالمواقف الرسمية تبدو باردة، والخطاب خالٍ من أي روح مبادرة. بينما تُعاد هندسة القضية الفلسطينية على طاولة واشنطن وتل أبيب، وعواصم دول المنطقة، تكتفي السلطة بصمت غريب وفي بعض الأوقات ببيانات خجولة ومواقف رمادية لا تغيّر شيئاً.

القضية الفلسطينية اليوم تواجه أخطر مراحلها، ليس فقط بسبب حرب الإبادة على غزة، بل بسبب تفكّك الموقف الفلسطيني الرسمي. هذا الغياب يفتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية لملء الفراغ، ويُضعف الحضور السياسي الفلسطيني إلى درجة التلاشي.القضية التي قامت على التضحيات والشرعية التاريخية أصبحت مهدّدة بفعل غياب القيادة القادرة على المواجهة، والتمسّك بحقوق الشعب، والدفاع عن وحدة الأرض والتمثيل.

السياسة، كما نعرفها، ليست مقعد انتظار في ردهة الأحداث، بل فنّ المبادرة وانتزاع الفرص وصناعتها. والسلطة الفلسطينية، بفريقها الحالي، يبدو أنها لم تعد راغبة أو ربما لم تعد (FIT)لتمثيل شعب يعيش الخطر الوجودي الأكبر منذ نكبة 1948.

في زمنٍ تُصاغ فيه خرائط جديدة، وفي وقت تعاد فيه كتابة فصول القضية الفلسطينية، يصبح الغياب عن لحظة غزة إخفاقاً تاريخياًقد يُكلّف الفلسطينيين مستقبلهم السياسي وحقهم في تقرير مصيرهم.، وليس موقفاً تكتيكياً، إنه عرضٌ لأزمة أعمق في الفكر السياسي الذي يقود السلطة: أزمة رؤية، وأزمة شجاعة. وفي عالمٍ لا يعترف إلا بالأقوياء والمبادرين، يصبح الانتظار انتحاراً سياسياًبطئاً. فمن لا يحضر في لحظة القرار، سيُكتب عليه أن يعيش طويلاً في هامش التاريخ.

قد تكون حرب غزة انتهت، لكن حرب الضفة يبدو أنها قد بدأت بأدوات أخرى، ألا يستحق شعبنا خيارات أخرى غير الصمت والركون جانباً؟

شاركها.