إنّ أخطر ما يواجه شعبنا، إلى جانب آلة القتل الإسرائيلية، هو محاولات التلاعب بالوعي، وبثّ خطابٍ مضلِّل يُقدَّم على أنّه إعلام مقاوم، بينما هو في جوهره رسائل حزبية ضيقة لا تخدم رواية الشعب الفلسطيني ولا معاناته الحقيقية. وكان آخر هذه النماذج تصريحات خالد مشعل الاخيرة، حول أنّ استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تُظهر دعم الشباب الأمريكي لحماس والمقاومة، في محاولة لتسويق صورةٍ وردية عن واقعٍ دولي شديد التعقيد، بما يوحي لشعبنا ومناصريه، بأنّ العالم يلتفّ حول الحركة وخياراتها، بينما الوقائع على الأرض تقول شيئًا مختلفًا تمامًا. هذا النمط من الخطاب لا يهدف إلا إلى إبقاء جذوة الالتفاف حول حركته مشتعلة، ولو على حساب الحقيقة، ولو عبر الخداع، وتجميل الهزيمة، وبيع الوهم لجمهورٍ دفع أثمانًا لا تُحتمل.
هناك فرقٌ جوهري بين إعلامٍ موجَّهٍ واعٍ، يحمل قضية شعبنا بصدق، ويدعم صموده في وجه حرب الإبادة، ويخلق ضغطًا نفسيًا وسياسيًا على الاحتلال، ويُحشد التأييد الدولي، ويعزّز روح الصامدين في لحظة تاريخية بالغة القسوة؛ وبين خطابٍ آخر يُصرّ على تحوير الحقائق، وبثّ الأوهام، وتسويق الهزيمة على أنّها نصر تاريخي.
الإعلام الموجَّه الواعي ليس حياديًا، بل منحاز بوضوح لحق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة. لكنه، في الوقت نفسه، لا يزوّر الواقع ولا يختلق انتصارات وهمية. هو إعلام، يعترف بحجم الكارثة ولا يختبئ خلف شعارات فارغة. وينقل معاناة الناس كما هي؛ الجوع، النزوح، الفقد، القهر، لا كمشهد ثانوي في خلفية خطاب انتصار لفظي. وينظر إلى العالم بعيونٍ مفتوحة؛ يفهم موازين القوى، طبيعة النظام الدولي، حدود التضامن، وواقع الرأي العام، بدل أن يختزل العالم في من هو معنا أو ضدنا. فما نسمعه ونراه في تصريحات عددٍ من قادة حركة حماس، وما يُبث عبر منصّاتهم الإعلامية، هو للأسف، أقرب إلى خطابٍ إنكاري يعاند الواقع، ويتجاهل حجم الكارثة التي يعيشها شعبنا في قطاع غزة. فالقول إننا انتصرنا، أو أنّ الاحتلال في مأزق ويحاول التغطية على هزيمته، ليس مجرد مبالغة سياسية، بل قطيعة فاضحة مع الحقيقة.
هذا النوع من الخطاب يصنع بوعي أو بغير وعي عدة تحوّلات خطيرة: يصبح معيار النجاح أو الفشل مرتبط ببقاء حماس، وليس بقدرة شعبنا على الصمود، وهذا يعني في روايتهم، أنّ المشروع بخير، حتى لو دُمِّر المجتمع من حولها. حين تصبح كل إشارة للهزيمة خيانة، وكل تساؤل حول جدوى الخيارات طعنة في ظهر المقاومة.
وحين يُطلَب من الناس أن يروا في الدمار نصرًا، وفي النزوح فرصة، وفي الفقر والحصار ثمنًا طبيعيًا، يتمّ تدريجيًا تآكل البوصلة الأخلاقية، ويُعاد تعريف الكرامة بشكلٍ يتناسب مع مصلحة الفصيل لا مصلحة الإنسان. فأيُّ منطقٍ هذا الذي يتحدث عن نصر، فيما أكثر من 60% من مساحة غزة خاضعة للاحتلال المباشر؟
وأيُّ نصرٍ يُبنى على استشهاد وإصابة مئات الآلاف، وتدمير مدينةٍ كاملة، ومحو البنية التحتية، وتهجير شعبٍ بأكمله، وتركه بلا مأوى ولا أفق؟.
إذا كانت الهزيمة لا تُقاس بمعاناة الناس، فبماذا تُقاس إذن؟. وإذا كان النصر يمكن أن يأتي على هيئة قطاع مدمَّر بالكامل، فما الذي سنسمّيه هزيمة إذن؟. الحقيقة أنّ ما جرى وما يجري هو هزيمةٌ ساحقة بكل المقاييس، وانكشاف كامل لواقع الاعتماد على الشعارات بدل الخطط، وعلى الخطابة بدل السياسة.
اعتقد، إن الاعتراف بهذه الهزيمة ليس خيانة، بل قد يكون: شرطًا للصدق مع أنفسنا قبل أن يكون صدقًا مع العالم. و أساسًا لأي مراجعة حقيقية تجيب على سؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟. وحمايةً للمستقبل من دورة جديدة من الدم والدمار.
الإنسان الفلسطيني اليوم لا يحتاج ممن يخاطبه، أن يخبره أنّه منتصر، فهو يرى بأمّ عينه: جثثًا تحت الركام. أحياءً بلا بيوت. مدنًا بلا ملامح. مستقبلًا بلا وضوح. وحين يسمع، وهو في هذا الحال، تصريحات تتحدث عن خسائر تكتيكية، والهزيمة للعدو، يشعر أنّ هناك من يعيش في واقعٍ آخر، أو يتعمد أن يبني عالمًا افتراضيًا لا يمتّ إلى تجربته اليومية بصلة.
هذا الإنكار له تبعات خطيرة: كسر الرابط بين التضحيات والمعنى، تضحياتٌ لا يُقال عنها الحقيقة تتحول إلى عبء ثقيل على الوعي الجمعي. أما حين تُسمّى الأشياء بأسمائها، يمكن لتلك التضحيات أن تتحوّل إلى درس، وإلى نقطة انطلاق، لا إلى جرح مفتوح بلا معنى. تهيئة الأرض لخيارات أكثر تطرّفًا، حين تنهار الثقة بكل شيء، يصبح أي صوت جذري أو مغامر قادرًا على استقطاب قطاعات من الناس تبحث عن مخرج، ولو كان ذلك المخرج بابًا إلى جحيمٍ جديد. الصمود لا يُبنى على الوهم، بل على وضوح الرؤية، وتحمل المسؤولية، والاعتراف بالأخطاء. أما إدارة المعنويات عبر الكذب فهي شكل من أشكال الإهانة المقنّعة، لأنّها تفترض ضمنًا أن هذا الشعب ساذج، يمكن خداعه ببعض الكلمات العالية النبرة، وصور قديمة لمسيرات أو رايات أو ردود فعل مبالغ فيها.
الإعلام المقاوم الحقيقي لا يعني تزوير الواقع، بل يعني نقل الحقيقة كاملة، حتى وإن كانت موجعة، ثم البحث بصدق عن طريق الخلاص. أما تحويل المأساة إلى منصةٍ للادّعاء والانتصار اللفظي، فهو استهلاك لأوجاع الناس، وإهانة لتضحيات الشهداء، واستخفاف بعقول الصامدين. ربما نُهزم عسكريًا، نعم. لكن الهزيمة الحقيقية هي أن نفقد شجاعتنا الأخلاقية على قول الحقيقة. وتعني أن نعيد تعريف المقاومة كحق مشروع للشعب وليس حكراً على فصيل، يُمارَس بعقلانية ومسؤولية، لا بعنترية شعاراتية.
في النهاية، ما نطالب به ليس إعلامًا محايدًا بين الضحية والجلاد، بل إعلامًا منحازًا لشعبنا ضد الاحتلال. ومنحازًا للحقيقة ضد الوهم، وللمسؤولية ضد التهرب، وللإنسان ضد الحزب. قد نستطيع يومًا أن نتجاوز هذه اللحظة، وأن نُعيد بناء ما تهدّم من الحجر والبشر. لكننا إن استمررنا في الكذب على أنفسنا، فإن ما سيتدمّر هذه المرة ليس المدن فقط، بل ما تبقى من وعينا الجماعي وكرامتنا الأخلاقية.
