نحن لا نريد مفاوضات تأخذنا إلى الجنة، بل نريد مفاوضات تنقذنا من النار، وهو ما لا نراه. ففي خضم المأساة المستمرة، يجد الفلسطينيون أنفسهم مرة بعد أخرى أمام طاولة مفاوضات يُراد لها أن تحسم مصائر الناس وحقوقهم ومستقبل قضيتهم. لكنّ المشكلة المزمنة في هذا المسار أنّ المفاوض الفلسطيني غالبًا ما يدخل هذه المفاوضات من موقع ضعف، ليس فقط على المستوى العسكري أو السياسي، بل الأهم من ذلك على مستوى الخبرة والاحتراف التفاوضي.
إن التفاوض مع إسرائيل ليس مجرد لقاء بين خصمين يحملان مواقف متعارضة، بل هو مواجهة غير متكافئة بين طرفين: أحدهما يمتلك مؤسسة تفاوضية متكاملة تضم خبراء قانونيين وعسكريين وسياسيين ونفسيين، وأجهزة استخبارية وأرشيفًا ضخمًا من الخبرات المتراكمة منذ عقود. في حين يدخل الفلسطينيون التفاوض غالبًا وهم مثقلون بالانقسامات الداخلية، والأجندات الحزبية الضيقة، وغالباً بقصور في امتلاك المهارات الأساسية التي تجعل التفاوض عملية احترافية وليست مجرد رد فعل أو تسجيل مواقف.
إنّ المفاوض الإسرائيلي لا يأتي وحده إلى الطاولة، بل تقف خلفه ماكينة كاملة: غرف عمليات، فرق تحليل، خبراء يعرفون نقاط القوة والضعف لدى الطرف الفلسطيني، وكيفية إدارة اللعبة النفسية والسياسية والضغط الإعلامي. بل أحيانًا يضع الإسرائيليون على الطاولة مطالب متشددة ليحصلوا لاحقًا على تنازلات كانت مستحيلة قبل بدء المفاوضات.
في المقابل، المفاوض الفلسطيني، خصوصًا حين يكون منغلقًا على انتماء حزبي محدد، يدخل التفاوض بلا خبرة تتعلق بقراءة لغة الجسد، وتحليل الخطاب، وإدارة التكتيك النفسي، بل يأتي محكومًا باعتبارات داخلية قد تكون أضيق من المصلحة الوطنية الجامعة. والأخطر أن بعض المفاوضين لا يمتلك الأدوات الاحترافية الأساسية التي تجعل التفاوض عملية مدروسة ذات أهداف واضحة وخطوط حمراء معلنة وخفية. فلا توجد أحيانًا وحدة خطاب، ولا وحدة موقف، ولا حتى ملفات تفاوضية متكاملة مدعومة بالبيانات والأرقام والحجج القانونية والسياسية.
ومن هنا تأتي أهمية مشاركة خبراء تفاوض فلسطينيين مستقلين، أو ممن ينتمون لمرجعيات سياسية متنوعة في أي مسار تفاوضي قادم. هؤلاء الخبراء يجب أن يتمتعوا بعدة مواصفات أساسية:
• مهارات تفاوض احترافية: مثل القدرة على قراءة الطرف الآخر، وفهم المصالح الحقيقية خلف المواقف المعلنة، وصياغة حلول وسط تحفظ الحقوق ولا تُفرّط بالثوابت الوطنية.
• خلفية قانونية ودبلوماسية: لإدخال القانون الدولي كأداة ضغط تفاوضي، خصوصاً في قضايا مثل الأسرى، الحصار، الإعمار، والاعتداءات على المدنيين.
• رؤية استراتيجية جامعة: لا تنطلق من انتماء حزبي ضيق، بل تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية تتطلب توحيد الموقف التفاوضي.
• قدرة على إدارة الضغط النفسي: لأن التفاوض مع الإسرائيليين يتم دائمًا تحت ضغوط هائلة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، وفي ظل مشاهد إنسانية مؤلمة.
إن وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب، وتحقيق أي إنجاز على الطاولة، لا يتحقق عبر الشعارات أو الخطابات الحماسية، التي نسمعها بين الفينة والأخرى من قادة حماس، بل عبر مهارات تفاوضية حقيقية، وخطط مدروسة، ووحدة موقف. وإذا لم يجرِ استثمار الكفاءات الفلسطينية في هذا المجال، فإن المفاوض الفلسطيني سيظل الحلقة الأضعف، حتى لو كان يمتلك شرعية نضالية أو شعبية.
لقد أثبتت التجارب أن غياب الفريق التفاوضي الفلسطيني الموحّد والمتنوع في خلفياته السياسية والمعرفية أدى إلى تضييع فرص كثيرة، بل وإلى توقيع اتفاقات إما لم تُنفّذ أو كانت نتائجها أقل بكثير من التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني.
وعليه، لا بد أن يكون أي تفاوض قادم ــ سواء لوقف إطلاق النار أو لترتيب الوضع السياسي بعد الحرب ــ مبنيًا على أسس مهنية واحترافية، تشارك فيه العقول الفلسطينية من مختلف الاتجاهات، بعيدًا عن الحسابات الحزبية الضيقة لحركة حماس، وأن يُدار بروح وطنية جامعة هدفها الأساسي حفظ حقوق الفلسطينيين وكرامتهم ومستقبل قضيتهم.
إن امتلاك مهارات التفاوض الاحترافي ليس ترفًا سياسيًا، بل بات مسألة حياة أو موت لقضية تتعرض للتصفية على الطاولة كما تتعرض للقصف في الميدان.