اخبار

التعليم في غزة بين الواقع والمأمول…

بقلم/ أ. أسمـــــاء مصطفى :معلمة وناشطة مجتمعية حاصلة على لقب المعلم العالمي للعا معلمة وناشطة مجتمعية حاصلة على لقب المعلم العالمي للعام 2020

 

طفولة بائسة ومستقبل مجهول يواجه الأطفال في غزة، حيث ظروف الحياة المعيشية الصعبة التي باتت تهدد مستقبلهم الموحش ومصيرهم المجهول في أن يعودوا لحياتهم الطبيعية كما كانت قبل السابع من أكتوبر العام الماضي وحتى اللحظة. لقد حرمت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أكثر من 630 ألف طفل فلسطيني من حصولهم على كافة حقوقهم الطبيعية بما في ذلك حقهم في التعليم. وتصنف منظمة اليونيسيف منطقة قطاع غزة هي البقعة الجغرافيةالأخطر في العالم على الأطفال حيث يُقتل طفل كل عشرة دقائق في قطاع غزة وتحذر اليونيسيف في ذات السياق من استمرار خطورة الوضع الكارثي على الطفل الفلسطيني بغزة وتطالب كما حال باقي مؤسسات وشعوب العالم بوقف الإبادة الجماعية بغزة.

وشهد قطاع غزة خلال أكثر من عام حالة غير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني من النزوح والتهجير القسري للفلسطينيين، حيث بات أكثر من نصف سكان قطاع غزة يعيشون في الخيام أو مراكز الإيواء التي كانت فيما سبق الحرب مدارس وبيوت علم للأطفال.

شعاع النور:

ورغم مرارة ما يتجرعه الغزيين وقسوة أيامهم، إلا أن الورد لا يزال ينبت فينا، ولا يزال الشباب والشابات بغزة يحاولون رسم بداية طريق الأمل لعودة مرتقبة إلى مقاعد الدراسة، لا يزال المعلمون المبادرونينفردون بهذا الشعاع محاولين بذلك دحض كل محاولات التجهيل، رافعين شعار البقاء متمسّكين بحقهم في ممارسة مهنة التعليم وحق الأطفال في الاستمرار بالتعلم ولو أنه من الواضح يعز عليهم فعل ذلك في ظل التحديات الشاقة التي تواجه عملهم التطوعي. بات المعلمون المبادرون الأكثر إيماناً بمحاولاتهم مطمئنين لما يفعلونه في جلساتهم التعليمية مع الأطفال المنتشرة هنا وهناك، حيث المدارس التي باتت لاقتبل القسمة على إثنين، فإمّا أن تكون أماكن لتقي العلم في الوضع الطبيعي أو تكون مراكز إيواء للنازحين الذين هُجّروا قسراَ من ديارهم إلى حيث تُركوا وحدهم تجتمع عليهم ويلات الحرب وقسوة الظروف وانعدام الحق في حياة كريمة آمنة. ومع انتشار عمل المعلمين ووصلوهم إلى أكبر عدد ممكن من الأطفال لضمهم داخل مجموعات كبيرة من المتعلمين متعاونين بذلك مع المؤسسات التعليمية المجتمعية امتد شعاع النور وازداد وهجه، آملين أن شمس الصباح ستملأ الدنيا توهجاً ونوراً يوماً ما. 

نقطة البداية:

في بادئ الأمر، اجتهد المعلمون بشكل فردي كلٌ في مكان نزوحه مع الأطفال من حوله في محاولة مقدّرة منهم لتعليم الأطفال وتفريغهم انفعالياً من هول الصدمة التي يعيشونها ويتعرضون لها ولايزالون يعانون آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية، واعتمدوافي غالبية الأنشطة التي يقومون بتنفيذها النمط الشعبي الذي يفرض نفسه في مرحلة الإبادة الجماعية بغرض تخفيف حدة الصدمة التي يعيشها الطفل ومحاولة إخراجه أو إبعاده قدر المستطاع عن جو الحرب وما خلفته من ظروف معيشية صعبة في مخيمات نزوحهم. 

وما لبث أن لحق الركب في ذلك الكثير من مؤسسات التعليم المجتمعي في فلسطين والمنظمات الإنسانية محلياً ودولياً ووزارات التربية والتعليم دعماً وإسناداً ويداً بيد مع المعلمين المبادرين الذين شكّلوا نواة متوهجة من النور لمن حولهم يكبر وهجها ويمتد يوماً بعد يوم. كان المعلم المبادر ملهماً في زمن عزّ فيه العمل والعطاء وكان قائداً لمستقبل تعليمي ضبابي الرؤية حتى اللحظة لكنه لايزال المحاول المخلص المنتمي بكل حب لمهنة التعليم وللطفل الفلسطيني الذي يستحق الأفضل. 

وتتبنى المؤسسات أعمالاً مختلفة للمعلمين وأنشطة متنوعة في أماكن متفرقة من قطاع غزة محاولين الوصول للطفل في مكان نزوحه، للعمل بشكل رئيسي على دعم الطفل نفسياً وتوفير الاحتياج المعنوي له وخاصة الأطفال من غير المصحوبين ومن ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل خاص، وتولي المؤسسات التعليمية اهتماماً خاصاً بتعزيز الصلابة النفسية للمعلمين ودعم أنشطتهم وتوسيع بقعة العمل قدر الإمكان وتوفير ما يمكن توفيره من احتياج أساسي للمعلمين والأطفال على حد سواء.

تحديات تواجه المعلمين المبادرين في غزة:

يواجه المعلمون المبادرون المنفذون للأنشطة التعليمية في قطاع غزة تحديات كبيرة تعيق أحياناً كثيرة استكمال تنفيذهم للأنشطة بل وتشكل شللاً في القيام بالأنشطة التعليمية من الأساس أحياناَ أخرى. يقف على رأس التحديات مشكلة عدم الشعور بالأمان والذي لن يتحقق إلا بوقف الحرب على غزة، حيث تُ قام الجلسات التعليمية تحت أزيز الطيران الحربي وأصوات الانفجارات التي تحيط بهم من كل مكان. ناهيك عن مشكلة النزوحات المتكررة للعائلات النازحة حيث يُطلب منهم بين حين وآخر مغادرة أماكنهم والانتقال لأماكن أخرى على الفور الأمر الذي يحول دون استكمال العمل المبدوء به مسبقاً والمؤسس له لفترة طويلة وبجهد عزيز جداً. علاوة على ذلك، مخاطر ما يعانيه أهل قطاع غزة من تفاقم في الوضع الصحي الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم حيث تنتشر الأوبئة الفتاكة والأمراض الجلدية بفعل الفيروسات والافتقار إلى مقومات الحياة السليمة صحياً وشح الحصول على مواد التنظيف الأساسية داخل أسواق قطاع غزة، الأمر الذي يسبب شللاً في القدرة على استكمال الأنشطة التعليمية في بعض الأماكن. يُضاف إلى ذلك كله غياب دور النظام التعليمي الفلسطيني الرسمي لمدة عامٍ كاملٍ، ويزيد الأمر صعوبة ما تم الإعلان عنه من قبل نظام التعليم من توجه إلى نمط التعليم الإلكتروني في غزة للانضمام إلى الفصول الافتراضية التي كانت قد أنشأتها الوزارة في رام الله، في ظل انعدام قدرة الحصول على قرطاسية تعليمية للمعلمين والأطفال والخيام التعليمية. 

التعليم الإلكتروني أم التعليم الشعبي:

إن ما يعانيه سكان قطاع غزة من ظروف معيشية شاقة تفرض على جميع المبادرين من أفراد ومؤسسات التي تبني تدخلات تعليمية الانخراط في نمط التعليم المجتمعي الشعبي الأكثر مناسبة للمرحلةالحالية ” مرحلة الصدمة” والذي بدأه المعلم منفرداَ من خلال التعليم بالقصص والحكايات وأنشطة التفريغ الانفعالي المختلفة ومن خلال ذلك يتم اسقاط تعليم مهارات أساسية ضمن الأنشطة ويتلو ذلك في الأهمية تعليم الطفل مهارات القراءة والكتابة بشكل أساسي. ومما لا شك فيه أن الابتعاد عن التجريب وفرض الفرضيات غير الملائمة لطبيعة احتياج الطفل بات أمراَ هاماَ في مرحلة الصدمة لاسيما توجهنظام التعليم الرسمي إلى تفعيل نمط ” التعليم الإلكتروني” في زمن الإبادة الجماعية بغزة، حيث مضى أكثر من عام على انقطاع شبكات الاتصالات الانترنت بل وانهيارها التام في مناطق كاملة من القطاع، وانقطاع التيار الكهربي بشكل كامل وشح الموارد التعليمية لاسيما الأجهزة الذكية وصعوبة شحنها وصعوبة توفير الأجهزة الخليوية في متناول الأبناء لتحقيق نمط التعليم الإلكتروني. 

بين الواقع والمأمول:

هنا في غزة يُقتل طفلٌ كل عشرة دقائق، هنا يُحرم للعام الثاني على التوالي أكثر من 630 ألف طالبو طالبة حقهم في التعليم، منهم 58ألف طفل وطفلة حرموا من الالتحاق في الصف الأول هذا العام، وأكثر من 88 ألف طالب جامعي فلسطيني حرمته الحرب الالتحاق بتعليمه الجامعي.  وأكثر من 39 ألف طالب وطالبة حرموا الالتحاق بامتحانات الثانوية العامة للعام الماضي 2023/2024 وانهاء تعليمهم الدراسي العام. كما حرم أكثر من 3000 طالبة وطالبة من الالتحاق بالمنح الدراسية التي حصلوا عليها في جامعات خارج غزة.

أكثر من 11   ألف طالب وطالبة من غزة فقدوا حقهم في الحياة، كما أن 4 من كل 5 مدارس تابعة للأنروا (وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين) بغزة تعرضت لضربات مباشرة أو تضررت نتيجة للقصف والتدمير. كما أن 90% من المباني المدرسية الحكومية دُمّرت أو أصبحت خارج الخدمة. ويسجّل لأول مرة في التاريخ أن نسبة الفاقد التعليمي لأطفال غزة هو 100%. 

وبرغم كل ذلك فإننا نعيش على الأمل بأن القادم من الأيام أجملها، نبني أملاً على ابتسامة طفلٍ نؤمن به تماماً كإيماننا بالكتاب والقلم. سيكون الطفل الغزّي هو المنهاج والنهج، هو الطريق والطريقة، سنحكي للعالم قصص الحياة بطريقة مختلفة، وسنبقى نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً. 

أعيدوا الطفل الفلسطيني إلى مقاعد الدراسة حيث يجب أن يكون، إلى ملعب كرة قدم كان يمارسها كل يوم، إلى مائدة الطعام في حضن أمه وعائلته. أعيدوا للطفل حقه في الحياة الآمنة، حقه في اللعب والتعليم كما باقي أطفال العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *