الأولويات الوطنية وسندروم التآكل الذاتي ..جمال زقوت

في دورته الثالثة و العشرين التي عُقدت في رام الله “30 أبريل 2018″، اقتصرت أعمال المجلس الوطني الفلسطيني في جوهرها على اعادة فك وتركيب هيئات منظمة التحرير الفلسطينية، نقيضاً للضرورة الوطنية لفتح أبواب المنظمة للجميع من أجل النهوض بدور مؤسسات الوطنية الجامعة وفق مقررات اجتماع اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني، التي عقدت في بيروت” يناير 2017″، بمشاركة رئيس المجلس الوطني وأعضاء اللجنة التنفيذية وقادة جميع الفصائل، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد . كان ذلك تكريساً لمتطلبات الهيمنة السياسية على القرار الوطني على أساس مبدأ الموالاة للسياسة المعتمدة، وإقصاء المعترضين عليها، رغم اتضاح فشلها المدوي، سيما ما يتصل بمسار التسوية السياسية والعلاقة مع اسرائيل. وفي كل ذلك ضرب بعرض الحائط لكل القرارات التي سبق للمجلس المركزي اتخاذها، والتي طالبت اللجنة التنفيذية القيام بعدد من الخطوات جوهرها مراجعة هذا المسار، والتوقف عن مسار الفشل الذي بدأ يصيب النضال الفلسطيني ومؤسساته بعطب مزمن وكأنه بات تجسيداً للتآكل الذاتي .
وهكذا أُطيح بآخر معالم الحالة الجبهوية التي عبر عنها المجلس الوطني، رغم الأدران والأثقال التي حُمِّلَت له في سياق تعويمه بتضخيم أعداد الموالين في عضويته، على حساب القوى الاجتماعية والسياسية الحية. فقد استخدم في تلك الدورة البند المستحدث سابقاً بتشيكل المجلس المركزي كحالة وسيطة بين دورتي انعقاد الوطني لمراقبة وتصويب أعمال التنفيذية، لإحالة كل صلاحيات المجلس الوطني السياسية والتنظيمية إلى المركزي، أي عملياً إلغاء الوطني، واعادة تشكيل المركزي بأغلبية من منافحي الموالاة، سيما ما يتصل بالأعضاء المستقلين، والذين أضيفوا لدورة الوطني تلك، والإتيان بهم “تعيينهم” مباشرة وفي نفس الدورة لعضوية المركزي. هذا طبعاً بالإضافة إلى حل المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، وإلغاء كل أشكال الرقابة على حكومتها، بما في ذلك الرقابة الشعبية والإعلامية .
وفي سياق مزيد من الإمعان لتفريغ المنظمة من مضمونها الجبهوي، تحولت أعمال التنفيذية إلى مجرد هيئة استشارية للرئيس، واستمرأت التنفيذية هذا الحال، وقبلت بالأمر الواقع هذا دون مجرد احتجاج عن تحويل أعلى “سلطة جبهوية تنفيذية” لمجرد نادي استشاري و ديوان للثرثرة السياسية .
حال منظمة التحرير هذا لم يكن مجرد صدفة أو بفعل شيخوخة قيادتها، بل بفعل فشل سياستها، والإصرار على المضي بسياسة الاسترضاء في سياق السعي لهندسة النظام السياسي الفلسطيني، بتفريغه من عناصر القوة التي مكنته من النهوض عبر سنوات الثورة وتشكيل المنظمة، خاصة ما يتصل بصون الوحدة الوطنية والطابع الجبهوي لها ، وطبيعة التمثيل التي رسّختها من خلال الشرعية الثورية على مدار العقود التي تلت تأسيس المنظمة.
لقد برزت حالة التآكل في مكانة المنظمة ليس فقط على الصعيد الداخلي، وخاصة المتصل بغياب دورها و دور السلطة في التصدي السياسي لحرب الإبادة، والعناد المريب في رفض المضي لما من شأنه تعزيز دورها القيادي الوحدوي وفقاً لإجماع الفصائل في بكين، والمسنود بحالة اجماع شعبي هي الأوسع منذ السقوط في فخ الانقسام عام 2007. بل، فقد عكست نفسها على مكانة المنظمة التمثيلية، عندما اجتمع عدد من القادة العرب في الرياض، وتم تغييب الحضور الفلسطيني، في وقت أن موضوع البحث الوحيد اقتصر على مستقبل الوضع الفلسطيني، سيما الحرب على القطاع وآليات اعماره والأطر الكفيلة بذلك . كما تجلى هذا التآكل أيضاً ، و بدلاً من وضع سبل إنهاء الانقسام على جدول أعمال القمة، لمتابعة دور الجامعة العربية في إنهائه كحاجة وجودية وفقاً لقرارات وزراء خارجيتها عام 2007، بذريعة أن ذلك شأن داخلي فلسطيني، فقد تم زج القمة بقضايا تخص “الحزب الحاكم” للسلطة، والتي على أهميتها، فالقمة العربية ليست المكان المناسب لمعالجتها، بقدر ماهو تعبير عن تآكل مكانتها.
إن الأولوية الوطنية العليا لشعبنا الفلسطيني تتمثل أساساً وقبل كل شئ في وقف حرب الإبادة ضد قطاع غزة، وحشد كل القوى والطاقات للجم العدوانية الاسرائيلية من استئنافها على نطاق واسع، و التصدي في نفس الوقت لحرب ضم الضفة الغربية والإمعان في تهويد القدس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل الدعوة لمجلس مركزي لاستحداث منصب نائب رئيس المنظمة يشكل الأولوية لتحقيق هذا الغرض؟ سيما أن الإعلان الدستوري الخاص بإشغال رئيس المجلس الوطني لمنصب الرئيس في حال شغوره قد أجاب على مخاوف حالة الفراغ . أم أنه محاولة أخرى لمزيد من الإمعان لضمان ديمومة الهيمنة والسيطرة، و ربما تعميق الخلاف في “الأطر الوطنية” التي سادت فيها بيئة مَرَضيِّة للتنافس على ما يُسمى بالخلافة، وهو سؤال منبته خارجي وليس متطلب داخلي، ويتم تداوله منذ أكثر من عقد كامل، وقد استهدف اشاعة أوهام ليس لها أي وظيفة سوى الإطباق على آليه اتخاذ القرار ، وبما يُكرس التفرد من ناحية، ويُعمق الصراعات الداخلية من ناحية ثانية . هذا في وقت أن المطلوب هو العودة لكلمة سواء تستنهض مجمل طاقات شعبنا في الدفاع عن حقوقه المستهدفة بالتصفية، ولا من بديل لهذا الأمر سوى باستعادة منظمة التحرير كونها الجبهة الوطنية التي تضم كافة القوى على أساس القواسم المشتركة والقيادة الجماعية الموحدة، وتشكيل حكومة توافق انتقالية لحين اجراء الانتخاب، تضع على رأس أولوياتها تعزيز قدرة شعبنا على الصمود والبقاء وحماية مصيره الوطني من خطر التصفية الداهم، وليس المزيد من التآكل في سياق الصراع على شرعية يطاح بها كل يوم ، الأمر الذي يرفضه الشعب الفلسطيني، وعليه أساساً تقع مسؤولية تصويبه باستعادة المنظمة ودورها في قيادة النضال الوطني التحرري .