سأُحاول أن أُناقش مسألة السلاح في الدولة الفلسطينية المنشودة، والسلاح الذي يتمّ الحديث عنه في هذه الأيام، وهي مسألة السلاح في قطاع غزّة، ويسمّونه «سلاح حماس» في المقال القادم، وذلك لسببين على الأقلّ:
الأوّل، هو أن هذا السلاح، سلاح الدولة و»سلاح حماس» مسألة تحتمل، وقد تحتمل الآن وفي المستقبل القريب وجهات نظر متعدّدة، ومن زوايا واعتبارات لا يمكن إلّا أن تؤخذ بالحسبان، وذلك بالنظر إلى الواقع ومعطياته، وبالنظر إلى جدواه الملحّة من عدمها في هذا الواقع.
والثاني، أن مسألة السلاح على الجانبَين تبقى قابلة «للحل» إلى حدّ كبير إذا توفّرت بعض الشروط التي تتعلّق بالضمانات الدولية، أو الإقليمية العربية التي تجعل منها، وتحوّلها إلى بدائل وإمكانيات فنّية مقبولة على كل الأطراف إذا صدقت النوايا بالذهاب إلى حلول سياسية في هذه المرحلة.
وبالإجمال، فإن مسألة السلاح والتسلُّح سيتمّ إرجاعها إلى مسألة أكبر وأهمّ، وهي: إلى أيّ حدّ أو درجة سيكون التسلُّح والسلاح يشكّلان تهديداً حقيقياً، وليس متخيّلاً لاستخدامه كذرائع لتعطيل الحلول، ومن أجل افتعال مسبّبات، مهما كانت متهاوية لاستمرار العدوانية، والتوسّع، والتطهير العرقي والإبادة كما سارت عليه الأمور على مرّ تاريخ هذا الصراع، وكما شهدنا فصوله الإجرامية على مدار ما يقارب العامين من الحرب الإبادية على الشعب الفلسطيني.
دعونا اليوم نناقش مسألة أخرى تبدو أكثر تعقيداً، وتبدو على درجة أكبر بكثير من مسألة التسلُّح والسلاح.
ماذا يعني منع أي قوى سياسية فلسطينية من المشاركة في الانتخابات الفلسطينية، على اختلاف أنواعها وأشكالها، الآن وفي المستقبل إلّا إذا كانت تلتزم بالشرعية الدولية وقراراتها، وهو الأمر الذي يعني إقصاء هذه القوى من النظام السياسي الفلسطيني كلّه.
تعالوا لنعد إلى سياق هذه المسألة عندما جرت الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 2006. في ذلك الوقت كاتب هذه السطور كان مع صيغة مشذّبة، ومع صياغة تشكّل نوعاً من الضوابط السياسية التي تتيح المشاركة من جهة، وتضبط الإيقاع السياسي الفلسطيني بإستراتيجية العملية السياسية آنذاك، وتبقي الباب موارباً لتطوّر المواقف الوطنية كلها حسب سير ومسار العملية السياسية، وكان هناك من النخب الفلسطينية التي استقرأت مبكراً هذا الأمر، ولامسته، واجتهدت بشأنه، وحاولت أن تنبّه إليه.
ويا للمفارقة العجيبة فقد تغافلت القيادة الرسمية الفلسطينية كلياً عن هذا الأمر، ولم تحاول حتى مجرّد وضع بعض الضوابط على هذا الصعيد. طبعاً نحن نعرف الأسباب التي جعلت أو «أجبرت» القيادة الرسمية على هذا التغافل.
إذ لم تكن القيادة الرسمية تتوقّع في أسوأ كوابيسها النتائج التي تمخّضت عن تلك الانتخابات، خصوصاً أن الرئيس أبو مازن نفسه قد فاز بانتخابات ديمقراطية شهد لها العالم كلّه، وبنسبة معقولة، وعلى أساس برنامج طرحه بكل وضوح وشجاعة، ونجح على أساسه.
ومع أن قوى عربية ودولية ومحلية، أيضاً، قالت للرئيس أبو مازن: إن «حماس» لديها قوة انتخابية كبيرة، وإنها في الميزان الانتخابي، كانت توازي وتعادل قوة «فتح»، إلّا أن القيادة الرسمية الفلسطينية كلّها تغافلت عن هذه التحذيرات في حينه.
وجاءت طبيعة قانون الانتخابات لترجّح كفّة «حماس» بصورة دراماتيكية كما نعرف.
الرغبة بإقحام «حماس» في حينه في أتون ومعمعان النظام السياسي كانت كما نعرف رغبة أميركية وإقليمية وعربية، إضافةً إلى الرغبات الوطنية المحلية.
منذ ذلك الوقت، وحتى الآن كيف سارت مسألة الشرعية الدولية، ومسألة الالتزام بها؟ وكيف سارت أمور هذه الشرعية حتى تنبري الرسمية الفلسطينية الآن لاستحضار الشرعية الدولية في إعادة بناء النظام السياسي من جديد؟
منذ تلك الفترة شرعت دولة الاحتلال بوضع تصفية القضية الفلسطينية على جدول الأعمال بصورة واضحة وملموسة، وعلى رؤوس الأشهاد في خطّة تم تنفيذها على مراحل، ووفق جداول زمنية معلنة في أغلب الأحيان.
اليوم تقارب القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة، من خلال مجلس الأمن، والجمعية العامة، وهيئاتها ذات الصلة والعلاقة محصّلات فلكية.
قرارات الجمعية العامة زادت على 950 قراراً، وقرارات مجلس الأمن تقارب الـ 180 قراراً، وقرارات الهيئات الأخرى حدّث ولا حرج، ولم يعد أحد جادّ في هذا العالم يعدّ وراء الأمم المتحدة حينما يتعلق الأمر بفلسطين وقضيتها الوطنية لشدة المهانة والسخرية التي ينظر بها العالم لهذه القرارات.
هذا كلّه مجرّد خلفية لوضع مسألة الشرعية الدولية في سياق منطقي ومباشر. أما في الواقع والممارسة فقد أجهضت الحكومات الإسرائيلية كلياً، ودمّرت القليل القليل من متبقّيات اتفاقيات أوسلو، وطارت التقسيمات: «أ» و»ب» و»ج»، وتضاعف الاستيطان وأعداد المستوطنين بـ 7 أو 8 أضعاف حسب الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية، وبحسب الأمم المتحدة نفسها، وبحسب كل المعطيات والوثائق والمصادر التي تتابع هذه المعطيات.
وشطبت فلسطين في «خرائط نتنياهو» التي عرضها في الأمم المتحدة نفسها، وأخرجت في «خرائط بايدن» لـ»الممرّ الهندي» بوجود 20 دولة في المؤتمر الـ 20، قبل «طوفان الأقصى» 2023، وصوّت «الكنيست» على قانون القومية، وصوّت أكثر من 90 عضواً على «عدم» قيام دولة فلسطينية تحت أي ظرف من الظروف، وتمّت السيطرة كلياً على الموارد، واستحدثت «إدارة مدنية» جديدة، تتولّى عملياً كل شيء، ولم يتبقَّ في يد السلطة الوطنية أي صلاحيات من أي نوع كان سوى بعض المهمّات ذات الطابع الخدماتي الصرف، وجرّدت كل الهيئات والمؤسسات من أي صفة رسمية باستثناء ما يكرّس سيطرة الاحتلال، وباستثناء ما يساعدها على خنق الفلسطينيين، وتحويل حياتهم إلى جحيم لا يُطاق.
أقصد أن أكثر من ثلاثة أرباع الهيئة التشريعية الأولى في دولة الاحتلال لا تعترف بشيء اسمه فلسطين، ولا بشيء اسمه حقوق وطنية للشعب الفلسطيني، ودولة الاحتلال لا ترغب بوجود أي كيانية وطنية فلسطينية، لا «حماسستان» ولا «فتحستان»، وتحاول بكل الوسائل أن تلصق تهمة اللاسامية بكل من يقترب، وبشروط مجحفة من مجرّد الاعتراف بدولة فلسطينية في المستقبل، مجرّدة من السلاح، ومن دون سيادة حقيقية، ومن دون حدود دائمة وثابتة ومعترف بها، ومن دون أي سيطرة على حدودها ــ إن وُجِدت ــ وعلى مواردها، باستثناء ــ في حالة إن قامت ــ إدارتها للسكّان دون أن تتمكّن حتى من السيطرة النسبية على وسائل عيشهم، ومصادر رزقهم، وبحيث تصبح فلسطين المنشودة ليس تحت سيطرة وسطوة المنطقة الجمركية الواحدة، وإنّما تحت مظلّة أمنية وحيدة، وهي المظلّة الإسرائيلية.
إذا قبلنا على أنفسنا إقصاء أي قوة سياسية واجتماعية من نظامنا السياسي بوجود قوى سياسية إسرائيلية مشاركة بقوة في النظام السياسي الإسرائيلي، وتدعو إلى إبادتنا أو تهجيرنا أو وضعنا في ظروف من العبودية السياسية للكلّ الفلسطيني، إذا فشلوا بقتله أو طرده.. إذا قبلنا على أنفسنا ذلك فنحن في الواقع نكون كمن وافق على تصفية حقوقه الوطنية بأيديه قبل أيدي عدوّه.
هناك ألف حل وحل للتعامل مع هذه المسألة.
الشرعية الدولية مسألة فضفاضة.
هناك القرار 181، وهو أهم قرار صادر عن الأمم المتحدة، وهناك القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة حول حق العودة، وهناك عدّة قرارات حول حق إقامة الدولة الوطنية على حدود 4 حزيران 1967، وهناك قرارات تجرّم الاستيطان والاستيلاء على الأرض، وهناك قرارات تعترف بحق شعبنا الكامل بالسيطرة على موارده، وهناك مئات القرارات. ومن على هذه القاعدة يمكن أن تتضمّن المشاركة في الانتخابات الفلسطينية الفصل التالي:
التزام واحترام كل القوى السياسية والاجتماعية المشاركة في هذه بقرارات الشرعية الدولية التي تتضمّن الإشارة إلى حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره بنفسه على أرض وطنه، بما في ذلك حقه في العودة، وحقه بإقامة دولته المستقلّة على حدود 4 حزيران 1967، بما فيها القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية.
كما أن القوى السياسية المشاركة في هذه الانتخابات ترى أن هذا الالتزام مشروط بالتزام الجانب الإسرائيلي، بهذه القرارات نصّاً وروحاً. أقصد أن الالتزام المتبادل هو الحل، وليس التزام الطرف المظلوم لتكريس سيطرة الظالم.
فإذا كانت أميركا ودولة الاحتلال تسعيان لاستئصال الظاهرة المقاومة للاحتلال، خصوصاً الظاهرة العسكرية، فإن إقصاء هذه الظاهرة سياسياً يشكّل وصفة لتدمير السلم الأهلي، واستحضاراً لمرحلة ما قبل السياسة في المجتمع الفلسطيني، ولا يليق بنا، مهما اختلفنا ألا نحذّر من ذلك كله.
مع ملاحظة أخيرة، لم أستطع أن أُخفّف من وطأة مجابهة أي قرار بالإقصاء السياسي أكثر من ذلك مؤقّتاً، وذلك لأن الإقصاء السياسي مهما كانت مبرّراته يُفترض ألا ترد في مفردات القاموس السياسي الفلسطيني، ويفترض أن تكون مسألة الشرعية الدولية هي معركة الكلّ الفلسطيني للطرف الذي يدوس عليها صباح مساء، وهي ليست معركة الفلسطينيين مع أنفسهم.

شاركها.