رحل الفنان الفلسطيني محمد بكري عن عمر يناهز 70 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا سينمائيًا غنيًا ومثيرًا للجدل، تميز بدفاعه المستمر عن القضية الفلسطينية. يعتبر بكري من أبرز الممثلين والمخرجين الذين سعوا لتقديم صورة واقعية عن حياة الفلسطينيين ومعاناتهم، خاصةً من خلال فيلمه الوثائقي الشهير “جنين… جنين”.

اشتهر بكري بأدواره في أفلام إسرائيلية وفلسطينية وغربية، لكنه ظل وفيًا لقضية وطنه، معبرًا عنها في أعماله السينمائية المختلفة. بدأ بكري مسيرته الفنية في الثمانينيات، وترك بصمة واضحة في السينما العربية والعالمية، ليصبح رمزًا للمقاومة الثقافية والفنية.

محمد بكري والسينما الفلسطينية

ولد محمد بكري في عام 1953، وانطلق في عالم التمثيل من خلال فيلم “هانا ك” (Hanna K) للمخرج كوستا-غافراس عام 1983. على الرغم من أن دوره في الفيلم كان محدودًا، إلا أنه مثّل نقطة انطلاق مهمة في مسيرته الفنية. يُذكر أن بكري لم ينطق بكلمة واحدة في أول 12 دقيقة من الفيلم، مما يعكس حالة الصمت والقمع التي كانت تعاني منها القضية الفلسطينية في ذلك الوقت.

بعد “هانا ك”، شارك بكري في العديد من الأفلام الإسرائيلية، مثل “إيستر” لأموش غيتاي، قبل أن يتجه نحو الإنتاج السينمائي الفلسطيني. كان فيلم “حيفا” لرشيد مشهراوي عام 1996 بمثابة عودة قوية إلى القضية الفلسطينية، حيث لعب دورًا رئيسيًا في الفيلم الذي يتناول قصة عودة لاجئين فلسطينيين إلى مدينتهم حيفا.

لكن فيلم “جنين… جنين” الذي أخرجه بكري عام 2002، هو الذي أثار الجدل الأكبر. وثّق الفيلم الأحداث المأساوية التي وقعت في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين خلال عملية عسكرية إسرائيلية، وعرض شهادات من ناجين وشهود عيان، بالإضافة إلى شهادات جنود إسرائيليين. تعرض الفيلم لحملة قمع ومنع عرض في إسرائيل، وتم رفع دعاوى قضائية ضد بكري بتهمة التشهير.

التحديات القانونية والإبداعية

واجه بكري تحديات قانونية كبيرة بسبب فيلم “جنين… جنين”، حيث تم منعه من السفر والخروج من إسرائيل لسنوات. ومع ذلك، لم يتوقف عن العمل السينمائي، وقدم فيلمًا وثائقيًا آخر بعنوان “جَنين… جِنين” عام 2024، يواصل فيه توثيق معاناة الفلسطينيين في المخيم. في هذا الفيلم، اعتمد بكري بشكل أساسي على شهادات الفلسطينيين، وتجنب إقحام شهادات إسرائيلية لتجنب المزيد من المشاكل القانونية.

بالإضافة إلى ذلك، شارك بكري في أفلام أخرى مثل “عيد ميلاد ليلى” و”زنديق”، واستمر في تقديم أدوار قوية تعكس قضايا المجتمع الفلسطيني. كما برز أبناؤه، صالح وزياد وآدم، في مجال التمثيل، ليواصلوا مسيرة والدهم في الدفاع عن القضية الفلسطينية من خلال الفن.

إرث بكري وتأثيره

ترك محمد بكري إرثًا فنيًا وثقافيًا هامًا، حيث يعتبر من الرواد الذين سعوا لتقديم صورة حقيقية عن القضية الفلسطينية للعالم. أثارت أفلامه نقاشات واسعة حول قضايا الهوية والذاكرة والعدالة، وساهمت في رفع الوعي بمعاناة الفلسطينيين.

لم يقتصر تأثير بكري على السينما، بل امتد إلى مجالات أخرى مثل المسرح والتلفزيون. كما كان ناشطًا سياسيًا وثقافيًا، وشارك في العديد من الفعاليات والمؤتمرات التي تهدف إلى دعم القضية الفلسطينية.

تُعد أفلام محمد بكري بمثابة وثائق تاريخية مهمة، تسجل الأحداث والمعاناة التي مر بها الشعب الفلسطيني. كما أنها تمثل دعوة للسلام والعدالة، وتؤكد على حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وإقامة دولتهم المستقلة.

من المتوقع أن يستمر إرث محمد بكري في إلهام الأجيال القادمة من الفنانين والمبدعين الفلسطينيين، وأن تظل أفلامه شاهدة على صمود الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. سيظل فيلم “جنين… جنين” على وجه الخصوص، محورًا للجدل والنقاش، ومصدرًا للإلهام للمدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. ما سيحدث في المستقبل يعتمد على استمرار الدعم للسينما الفلسطينية وقدرتها على الوصول إلى جمهور أوسع.

شاركها.