رحل عن عالمنا المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد، يوم السبت، عن عمر يناهز 79 عاماً، بعد صراع مع المرض. يُعدّ عبد السيد من أبرز رواد السينما المصرية الحديثة، حيث ترك بصمةً واضحةً بأسلوبه المميز ورؤيته الفلسفية، وأثرى السينما العربية بأعماله التي تناولت قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة. وسيظل اسم داوود عبد السيد محفوراً في ذاكرة السينما العربية كأحد أهم صناعها.

أعلنت زوجة المخرج، الكاتبة الصحافية كريمة كمال، وفاته بعد معاناة مع الفشل الكلوي. ومن المقرر أن يتم تشييع جنازته يوم الأحد من كنيسة مار مرقس، حيث يودعه محبوه وعشاق فنه.

إرث سينمائي نوعي لـ داوود عبد السيد

لم يركز المخرج الراحل على الكم، بل آثر الجودة في أعماله. على الرغم من مسيرته الطويلة التي بدأت في السبعينيات، إلا أنه قدم 9 أفلام روائية طويلة فقط، بالإضافة إلى 6 أفلام وثائقية. تميزت أفلام داوود عبد السيد بجرأتها في طرح الأفكار الجديدة، ورفضها للنمطية، وقدرتها على إثارة التفكير والتأمل لدى المشاهد.

بدأ عبد السيد مسيرته كمساعد مخرج لكبار المخرجين مثل يوسف شاهين في فيلم “الأرض” وكمال الشيخ في “الرجل الذي فقد ظله”. لكنه سرعان ما اكتشف أن دوره الحقيقي يكمن في الإخراج والتأليف، حيث كان يفضل التركيز على رؤيته الخاصة للعالم.

محطات رئيسية في مسيرته

انطلقت مسيرة عبد السيد في عالم الإخراج مع الفيلم الوثائقي “رقصة من البحيرة” عام 1972. ثم توالت أعماله الوثائقية التي تناولت قضايا مختلفة مثل تعمير مدن القناة، وأهمية التعليم في القرى، والسلامة الصناعية، والعمل في الحقول، وتاريخ الفن والفنانين.

أما أفلامه الروائية الطويلة فقد بدأت بفيلم “الصعاليك” عام 1985، والذي أعلن عن ميلاد مدرسة إخراجية جديدة في السينما المصرية. تلت ذلك أفلام أخرى مثل “أرض الخوف” و”الكيت كات” و”رسائل البحر” و”سارق الفرح” و”بعد الموعد” و”قدرات غير عادية”.

أشاد وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو بإرث المخرج الراحل، مؤكداً أن أفلامه ساهمت في ترسيخ مكانة الفن السابع كأداة للتنوير وبناء الوعي. وأضاف أن اسم داوود عبد السيد سيبقى حاضراً في الذاكرة الثقافية والفنية المصرية.

يرى مدير التصوير السينمائي سعيد شيمي، الذي عمل مع عبد السيد في فيلم “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم”، أن المخرج الراحل كان يدعو إلى أهمية تعليم الفلاحين لخدمة المجتمع. وأشار إلى أن عبد السيد كان مفكراً وفيلسوفاً، وأن رؤيته الفلسفية كانت تغلف جميع أعماله.

رؤية فكرية وإنسانية عميقة

اعتبر الناقد طارق الشناوي أن أفلام داوود عبد السيد تعبر عن نبضه وروحه وعالمه الخاص. وأشاد بفيلم “أرض الخوف” باعتباره من الأفلام التي حفرت في الوجدان والذاكرة، بينما وصف فيلم “الكيت كات” بأنه الأكثر نجاحاً جماهيرياً.

أما فيلم “رسائل البحر” فيراه الشناوي حديثاً عن الرسائل التي يقدمها الله للبشر، والتي لا يستطيع قراءتها إلا القليل منهم. وأضاف أن عبد السيد حاول من خلال الفيلم أن يجعلنا نسمع ونقرأ هذه الرسائل.

واعتبر الشناوي أن فيلم “قدرات غير عادية” هو بمثابة ومضة للمخرج الراحل، وكأنه يريد أن يعانق السماء بهذا الفيلم الأخير. وأشار إلى أن أفلام عبد السيد أصبحت مدرسة للعديد من المخرجين الشباب، الذين تعلموا منها وقدموا أفلامهم الأولى إهداءً له.

تكرر اسما الموسيقار راجح داوود، ابن عمه، وفنان الديكور أنسي أبو سيف في معظم أفلام داوود عبد السيد، مما يدل على العلاقة الوثيقة التي كانت تربطهم به، والتفاهم الكبير الذي كان يجمعهم.

وقد أثار قرار المخرج بالاعتزال عام 2022 جدلاً واسعاً. وبرر عبد السيد قراره بأنه أدى رسالته من خلال الأفلام التي قدمها، وأن الأسباب التي دفعته لذلك طبيعية، بما في ذلك تقدمه في السن وتغير الجمهور. ولكنه كشف أيضاً عن معاناته في الحصول على تمويل لأفلامه، ورفضه للرضوخ للجمهور وتقديم أعمال لا تحترم عقولهم وإنسانيتهم.

توالت تعازي المخرجين والفنانين في وفاة داوود عبد السيد. وعبر الفنان حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي، عن حزنه العميق، مؤكداً أن السينما المصرية فقدت أحد أهم مبدعيها.

من المتوقع أن يشهد قطاع السينما المصرية مبادرات لتكريم المخرج الراحل وعرض أفلامه في المهرجانات السينمائية المختلفة. وسيظل إرث داوود عبد السيد السينمائي محط تقدير واحترام للأجيال القادمة من المخرجين والمشاهدين. يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت أعماله ستلهم موجة جديدة من السينما المصرية الواقعية والفلسفية.

شاركها.