مع النهضة الفنية التي تشهدها المملكة العربية السعودية حالياً، والتي تتجسد في إنشاء هيئات ومؤسسات تدعم الفنون المعاصرة والأجيال الجديدة من الفنانين، يبرز أهمية العودة إلى الجذور وتعزيز العلاقة بين رواد الحركة الفنية السعودية ومعاصريها. هذا التوجه يهدف إلى استكمال الصورة الثقافية الغنية للمملكة، وقد تجلى في زيادة الاهتمام بأسماء الفنانين الذين وضعوا اللبنات الأولى للفن الحديث في السعودية خلال الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ونتيجة لذلك، شهدت المملكة إطلاق العديد من المعارض والكتب التي كرّمت هؤلاء الرواد وأعادتهم إلى مكانتهم المستحقة في تاريخ الفنون البصرية.
في هذا السياق، تنظم هيئة الفنون البصرية في المملكة معرضاً ضخماً بعنوان “بدايات”، يمثل تتويجاً لمشروع بحثي مكثف يهدف إلى توثيق وتحليل تاريخ الفن السعودي. سيُقام المعرض في 27 يناير المقبل في المتحف الوطني السعودي بالرياض، وسيسلط الضوء على مرحلة مفصلية شهدت بروز الممارسات الفنية الحديثة والتجريدية في المملكة.
مشروع “بدايات” وتوثيق تاريخ الفن السعودي
اعتمدت هيئة الفنون البصرية في مشروعها البحثي على إجراء مقابلات مع 50 شخصية محورية من الفنانين والمختصين، بالإضافة إلى إعداد 120 تقريراً وتنفيذ 80 زيارة ميدانية. وقد تم ذلك بالتعاون مع فريق استشاري يضم الفنان عبد الرحمن السليمان، والدكتور محمد الرصيص، والدكتور شربل داغر، للاستفادة من خبرتهم الأكاديمية وشهاداتهم المباشرة في توثيق المعارض المبكرة والحراك التعليمي واللغة التعبيرية المحلية التي تطورت خلال تلك العقود.
اختيار الفنان قسورة حافظ كمنسق فني للمعرض لم يكن مفاجئاً، نظراً لاهتمامه الكبير بالحركة الفنية السعودية الحديثة والمعاصرة من خلال غاليري “حافظ”. وقد قام حافظ مؤخراً بتنسيق معرض “خمسين… نظرة على الفن السعودي” في دار سوذبيز بلندن عام 2024، والذي احتفى برواد الفن الحديث والمعاصر في المملكة.
أقسام المعرض ومحاور التركيز
يتألف معرض “بدايات: بدايات الحركة الفنية السعودية” من ثلاثة أقسام رئيسية، يهدف كل منها إلى استعراض تطور المشهد الفني من منظور موضوعي وسياقي. يعتمد المعرض في ذلك على مواد أرشيفية وأعمال فنية متنوعة. القسم الأول يتناول أسس حركة الفن الحديث في المملكة العربية السعودية، ونشأة المشهد الفني من خلال التفاعل بين المبادرات الفردية للفنانين والدعم المؤسسي.
أما القسم الثاني فيستعرض القضايا الفنية والفكرية التي شكلت الإنتاج الفني السعودي، متتبعاً تأثيرات الحياة الحديثة وإعادة صياغة التيارات الفنية في السياقات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، يركز المعرض على تفاعل فناني القرن العشرين مع الإرث الثقافي الغني للمملكة، ومشاركاتهم الفنية العربية والدولية.
القسم الثالث يبرز إسهامات أربعة فنانين رواد ودورهم المحوري في هذه الحقبة، وهم: عبد الحليم رضوي، محمد السليم، منيرة موصلي، وصفية بن زقر. سيتم عرض أعمالهم المميزة التي تعكس تطور الحركة الفنية في المملكة.
أهمية المعرض ومستقبله
تؤكد دينا أمين، الرئيس التنفيذي لهيئة الفنون البصرية، أن المعرض يهدف إلى الاحتفاء بتاريخ الفن في المملكة، مضيفة: “نفخر بإبراز هذا الإرث الفني الغني من خلال تكريم الفنانين الرواد والمبادرات العامة والخاصة التي شكلت المشهد الفني في تلك الفترة. نأمل أن يشكل هذا المعرض امتداداً حياً ومستداماً، يتيح للجمهور الوصول إلى عمق وتنوع تاريخنا البصري.”
من جانبه، أوضح القيّم الفني للمعرض قسورة حافظ أن “بدايات” يقدم سرداً شاملاً قائماً على البحث والتوثيق لتاريخ الفن الحديث السعودي. وأضاف: “من خلال الدراسات الأرشيفية، والأعمال الرائدة، والروايات المباشرة للفنانين، نعمل على حفظ أسس الحركة الفنية للأجيال المقبلة. ويشكل هذا المشروع تكريماً للفنانين الأوائل وإرثاً ثقافياً مستداماً يواصل إلهام الجمهور داخل المملكة وخارجها.”
بالإضافة إلى المعرض نفسه، سيصاحبه إصدار مطبوع شامل وفيلم وثائقي، ليشكّلا مرجعاً معرفياً قيماً للباحثين والجمهور المهتمين. كما ستنظم الهيئة برنامجاً حافلاً يتضمن جلسات حوارية وورش عمل متخصصة تتناول محاور أساسية مثل التعليم الفني المبكر، ودور المعلمين والمؤسسات الرائدة، وممارسات حفظ الأرشيف الفني.
من المتوقع أن يشكل هذا المعرض نقطة تحول في الاهتمام بتاريخ الفن السعودي، وأن يساهم في تعزيز الحوار الثقافي والإبداعي في المملكة. وستراقب الأوساط الفنية والمهتمين مدى تأثير المعرض على المشهد الفني المعاصر، وما إذا كان سيؤدي إلى المزيد من المبادرات التي تحتفي برواد الفن وتدعم الأجيال الجديدة. كما سيكون من المهم متابعة نتائج المشروع البحثي الذي اعتمد عليه المعرض، وما إذا كان سيتم نشره وتوزيعه على نطاق واسع ليكون في متناول الباحثين والمهتمين.
