اخبار السودان

العقوبات الأمريكية على السودان : من دعم الإرهاب إلى تعطيل الديمقراطية

نبيل منصور

 

مقدمة :

منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، بات السودان من الدول التي تتعامل معها الولايات المتحدة ضمن أدوات الضغط والعقوبات، ما جعله نموذجًا لتقاطع المبادئ الأمريكية المعلنة كالحرية وحقوق الإنسان مع المصالح الجيوسياسية والاعتبارات الأمنية. ورغم تغير الأنظمة السياسية في الخرطوم وتبدل الإدارات الأمريكية في واشنطن، ظل السودان محاصرًا بالعقوبات، وإن اختلفت طبيعتها وأسبابها ومآلاتها.

 

هذا المقال يرصد تطور العقوبات الأمريكية على السودان، بدءًا من لحظة التصنيف كمصدر تهديد، وصولًا إلى أحدث العقوبات التي طالت النظام العسكري بعد حرب 2023م، محاولًا فهم كيف تتقاطع المبادئ والمصالح في صنع القرار الأمريكي.

 

 

أولًا : مسار تاريخي للعقوبات الأمريكية على السودان

 

1. التصنيف كراعٍ للإرهاب (1993م):

 

كانت البداية الفعلية للعقوبات في عهد الرئيس بيل كلينتون، لكن الجذر السياسي بدأ في أغسطس 1993م، حين أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.

 

السبب الرئيسي كان احتضان نظام الإنقاذ لأسامة بن لادن وعدد من قادة تنظيمات إسلامية مصنفة كإرهابية، مثل حماس والجهاد الإسلامي، إضافة إلى علاقاته بالنظام الإيراني.

 

لم تُفرض حينها عقوبات اقتصادية، لكن تم فرض قيود دبلوماسية ومالية، وشكّلت هذه الخطوة التمهيد الأول لعزل السودان دوليًا.

 

 

2. العقوبات الاقتصادية الشاملة (نوفمبر 1997):

في 3 نوفمبر 1997م، وقّع الرئيس بيل كلينتون على الأمر التنفيذي 13067، الذي فرض عقوبات اقتصادية شاملة على السودان.

الأسباب المُعلنة: دعم الإرهاب، انتهاكات حقوق الإنسان، وزعزعة الاستقرار الإقليمي، خاصة في جنوب السودان.

شملت العقوبات:

تجميد الأصول السودانية في أمريكا.

حظر كل أشكال التجارة والاستثمار.

عزل مالي ومصرفي شامل.

 

3. تصعيد بسبب دارفور (2006م):

في مايو 2006م، أصدر الرئيس جورج بوش الابن الأمر التنفيذي 13400، بفرض عقوبات إضافية استهدفت أفرادًا ومؤسسات مرتبطة بالنظام، على خلفية النزاع في دارفور.

الولايات المتحدة اعتبرت ما يجري في دارفور “إبادة جماعية”.

طالت العقوبات قادة في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن، وفرضت قيودًا جديدة على التحويلات المالية.

 

4. بداية الانفراج (2016م2017م):

في نهاية عهد أوباما، بدأت مفاوضات لتخفيف العقوبات، بعد تنسيق أمني وثيق بين الخرطوم وواشنطن في مجال مكافحة الإرهاب.

في يناير 2017م، صدر قرار بتخفيف العقوبات جزئيًا وتعليق بعضها لمدة ستة أشهر.

 

5. رفع العقوبات الاقتصادية (أكتوبر 2017م):

في عهد دونالد ترامب، قررت الإدارة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية بشكل نهائي في 6 أكتوبر 2017م، مع الإبقاء على السودان في قائمة الإرهاب.

هذا القرار جاء في سياق تقارب سياسي وإقليمي، وارتبط لاحقًا بصفقة التطبيع مع إسرائيل التي بدأت فعليًا في 2020م.

 

6. شطب السودان من قائمة الإرهاب (ديسمبر 2020م):

في ختام فترة ترامب، تم شطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد تعهده بالتطبيع مع إسرائيل ودفع تعويضات لأسر ضحايا تفجيرات إرهابية.

 

ثانيًا: عودة العقوبات بعد الثورة والانقلاب

 

1. دعم أمريكي بعد سقوط البشير (2019م2021م):

 

بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019م، حظيت الحكومة الانتقالية بدعم أمريكي واسع:

 

مساعدات اقتصادية.

التزام بتخفيف الديون.

دعم دبلوماسي لمسار التحول الديمقراطي.

كان هناك تفاؤل بأن السودان يخرج من عزلته أخيرًا.

 

2. انقلاب 25 أكتوبر 2021م:

 

قاد عبد الفتاح البرهان انقلابًا عسكريًا أنهى الشراكة مع المدنيين.

ردت إدارة جو بايدن بقرارات فورية:

تعليق المساعدات الاقتصادية.

تجميد التعاون المالي والدبلوماسي.

فرض عقوبات فردية على قادة عسكريين.

 

3. تصاعد الحرب الداخلية (من أبريل 2023م):

 

اندلاع القتال بين الجيش السوداني والدعم السريع فجّر الوضع.

فرضت واشنطن عقوبات جديدة في عدة دفعات، طالت:

أفرادًا من الجيش والدعم السريع.

شركات تجارية مرتبطة بالطرفين.

 

4. استخدام أسلحة كيميائية (مايو 2025م):

 

في22 مايو 2025م، فرضت وزارة الخارجية الأمريكية عقوبات نوعية على الجيش السوداني، بعد تقارير استخباراتية تتهمه باستخدام أسلحة كيميائية.

استندت العقوبات إلى قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية لعام 1991م.

 

هذه أول مرة تُستخدم فيها هذه الأداة ضد السودان.

 

ثالثًا: قراءة تحليلية بين المبادئ والمصالح

 

1. تَحوّل في أدوات الضغط:

 

في التسعينيات والعقد الأول من الألفية، استخدمت واشنطن عقوبات شاملة كأداة لعزل النظام بالكامل.

 

بعد 2010م، ومع تصاعد الحديث عن “العقوبات الذكية”، تغيّر النمط:

تركيز على الأفراد.

استهداف مؤسسات مالية محددة.

تقليل الأثر على المدنيين.

2. ازدواجية الخطاب الأمريكي:

 

العقوبات غالبًا ما ترتبط بالمصالح أكثر من المبادئ:

كلينتون استخدم العقوبات لتأمين الأمن الإقليمي.

ترامب رفعها مقابل التطبيع لا تحسن الوضع الحقوقي.

بايدن أعادها بعد فشل التحول الديمقراطي واندلاع الحرب، لكن دون تدخل حقيقي لوقف النزاع.

 

3. العامل الإعلامي:

 

في عهد البشير، كان جزء كبير من الانتهاكات غير موثق أو بعيدًا عن الإعلام العالمي.

بينما في عهد البرهان، ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى المصوّر في الضغط على الرأي العام الأمريكي والدولي، ما أجبر الإدارة على التحرك.

 

 

رابعاً: هناك مقولة شائعة تقول بأن العقوبات الأمريكية “لا تستهدف المدنيين”، وهي عبارة تكررها الإدارات الأمريكية دائمًا عند فرض أي عقوبات على دول مثل السودان.

 

أ : هل فعلاً لم تؤثر العقوبات الأمريكية على المدنيين في السودان؟

الإجابة ببساطة: لا، العقوبات أثّرت وبعمق على المدنيين، حتى إن لم تكن موجهة لهم مباشرة.

 

ب : كيف أثرت العقوبات على المدنيين في السودان؟

 

1. عزلة اقتصادية ومالية خانقة:

انهيار نظام التحويلات البنكية الدولية (سواء SWIFT أو التعامل مع الدولار) أدى لصعوبة استيراد الأدوية، الآلات، المواد الخام، وحتى الكتب.

 

توقفت معظم شركات التكنولوجيا العالمية والبنوك والمؤسسات الدولية عن التعامل مع السودان، مما أثّر على التعليم، الصحة، القطاع الخاص، ومشاريع التنمية.

 

2. صعوبة الحصول على الأدوية والمعدات الطبية:

حتى وإن كانت الأدوية “معفاة نظريًا”، فإن الشركات العالمية تخشى التعامل مع السودان بسبب التعقيد القانوني والخوف من العقوبات الثانوية، مما أدى لنقص الأدوية والمعدات وضعف الخدمات الصحية.

 

3. ضعف الاستثمار الخارجي:

لم يكن ممكناً جذب استثمارات أو حتى شركات ناشئة أجنبية. هذا أدى إلى غياب فرص العمل وتدهور الاقتصاد المحلي.

4. تأثير نفسي واجتماعي ممتد:

 

العزلة تولّد الإحباط والاغتراب الجماعي، ما ساهم في هجرة العقول، وهروب كثير من الكفاءات، وتدمير الثقة بالنظام المالي.

5. تحوّل السودان إلى اقتصاد “رمادي”:

 

نشطت السوق السوداء، والتهريب، وشركات الواجهة، مما عزز الفساد واحتكار الثروات من قبل النخبة المرتبطة بالنظام.

 

ج : لماذا تروّج أمريكا لخطاب “العقوبات الذكية”؟

 

تجميل سياسي: لتقليل الانتقادات الدولية بأنها تضر بالشعوب.

 

مبرر أخلاقي: حتى لا تُتهم بأنها تتسبب في معاناة شعب بأكمله، فتستخدم تعبيرات مثل “العقوبات تستهدف الأفراد فقط”.

 

استخدام الإعلام كأداة: الخطاب الإعلامي الأمريكي يصوّر العقوبات كأداة إنقاذ للشعب من الأنظمة الديكتاتورية، رغم أن الواقع في الغالب مختلف.

 

 

خامساً: كيف عقدت العقوبات الأمريكية مسار التحول الديمقراطي؟

 

1. إضعاف الاقتصاد والمجتمع المدني:

 

العقوبات الأمريكية، خصوصًا تلك التي استهدفت النظام المصرفي والتبادلات الدولية، خنقت الاقتصاد السوداني. وهذا أدى إلى:

تقليص الموارد المتاحة للمجتمع المدني المستقل.

إضعاف الطبقة الوسطى، التي تُعتبر تقليديًا حاضنة للتحول الديمقراطي.

زيادة الاعتماد على المعونات الخارجية أو الجهات الأمنية، ما حدّ من الاستقلال السياسي للفاعلين المدنيين.

 

2. خلق بيئة تبريرية للسلطة الحاكمة:

الأنظمة السلطوية تستغل العقوبات لتبرير فشلها، عبر خطاب شعبوي من نوع:

 

“لسنا نحن من دمّر الاقتصاد بل الغرب!”

“لا يمكنكم إسقاط الحكومة في ظل حصار دولي ظالم!”

 

وهكذا تُستخدم العقوبات كذريعة لإطالة عمر الأنظمة الاستبدادية بحجة “مواجهة الاستهداف الخارجي”.

*ويمكن الرجوع الي مقالي (البيئة المعزولة: استراتيجية العزلة كأداة للهيمنة والثراء في تجربة الإسلاميين في السودان) لتوضيح اكثر.

 

3. عزلة سياسية وديبلوماسية:

 

العقوبات تعزل الدولة دوليًا، وتُقلص من فرص انتقالها إلى نظام ديمقراطي عبر التفاعل الإقليمي والدولي، مما يجعل عملية الانتقال محصورة في الداخل فقط، بدون دعم أو ضغط خارجي بنّاء.

 

4. تحوّل مراكز النفوذ:

بفعل الحصار والعقوبات الغربية، خاصة خلال حكم البشير، أعادت الأنظمة السودانية تموضعها الاستراتيجي بالاتجاه نحو قوى دولية مثل الصين وروسيا وبعض دول الخليج. هذا التحوّل منح النظام غطاءً دبلوماسياً في المحافل الدولية مثل مجلس الأمن، ووفّر له بدائل اقتصادية وعسكرية دون الحاجة إلى الامتثال لشروط المؤسسات الغربية كصندوق النقد الدولي. داخليًا، شجّع هذا الدعم غير المشروط على التمادي في القمع وتعزيز القبضة الأمنية دون خشية من التدخل الغربي، مما ساهم في ترسيخ السلطوية وتعميق التبعية لمحاور خارجية ذات مصالح تتعارض أحيانًا مع تطلعات الشعب السوداني في الحرية والديمقراطية.

 

ولذلك، العقوبات لم تكن سببًا مباشرًا في بقاء النظام، لكنها خلقت بيئة مثالية لتقوية قبضته، وإضعاف خصومه الديمقراطيين، وتأخير أي تغيير جذري.

 

الخلاصة :

1. العقوبات وأثرها غير المباشر على المدنيين:

لم تكن العقوبات الأمريكية على السودان بريئة من التأثير على المدنيين، حتى وإن لم تكن موجهة إليهم مباشرة. فقد أسهمت في إضعاف البنية الاقتصادية، وشلّ النظام المصرفي، وتقليص فرص الاستثمار، ما انعكس سلبًا على الحياة اليومية، وفاقم التدهور في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم، وعقّد طريق التحول الديمقراطي ذاته الذي جاءت العقوبات باسمه. مما أسهم في تعزيز نماذج سلطوية وغير ديمقراطية للحكم، حيث لا تهتم هذه الدول كثيرًا بمسائل حقوق الإنسان أو الديمقراطية، بقدر ما تركز على المصالح الاقتصادية والعسكرية. وتُنتج شعوراً جماعياً بالخذلان والتهميش، خصوصاً لدى الشباب السوداني، كما تسرب الإحباط إلى الطبقة الوسطى، ما أضعف مناعة المجتمع تجاه الأزمات.

 

2. السياسة الأمريكية : تقلب بين المبادئ والمصالح:

 

تكشف تجربة السودان مع العقوبات الأمريكية عن مسار طويل من التقلبات التي تعكس مزجًا غير متوازن بين المبادئ الأخلاقية والمصالح الجيوسياسية. فبين شعار “مكافحة الإرهاب” وتعطيل فرص الديمقراطية، واصلت واشنطن التعامل مع السودان كدولة هامشية، تستدعيها أدوات الضغط لا الحلول. ويبقى التحدي الأكبر في قدرة السودانيين على تفكيك هذا الإرث الثقيل، وبناء مسار وطني مستقل يُعيد صياغة العلاقة مع العالم على أساس الندية والسيادة.

 

3. عقوبات لا تنهي الحرب ولا تصنع ديمقراطية:

 

رغم عقود من العقوبات الأمريكية على السودان، لم تؤدِ هذه السياسات إلى إسقاط نظام، ولا إلى حماية حقوق الإنسان، ولا إلى إنقاذ المدنيين من ويلات الحرب أو الفقر أو الانتهاكات. بل، على العكس، ساهمت في ترسيخ العزلة، وإضعاف المؤسسات المدنية، وتشجيع اقتصاد الظل والفساد.

كما لم تكن السياسة الأمريكية مستقرة أو مبدئية في تعاملها مع السودان، بل كانت خاضعة لتحولات إقليمية وابتزازات سياسية كما في حالة التطبيع مع إسرائيل.

لذا، فإن تقييم أثر العقوبات لا يمكن أن ينفصل عن نقاش أوسع حول أدوات الضغط الدولي، وضرورة صياغة سياسات أكثر اتساقاً مع حقوق الشعوب، لا مع موازين القوى.

 

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *