مثّلت الشراكة بين فيروز والأخوين رحباني وصبري الشريف علامة فارقة في تاريخ الأغنية والمسرح العربي، حيث أسست هذه المجموعة الإبداعية لمدرسة فنية جديدة لا تزال تأثيراتها واضحة حتى اليوم. استمر هذا التعاون المثمر لعقود، وشهد ولادة مئات الأعمال التي أثرت في وجدان الأجيال، بدءاً من عام 1959 وتشكل “الفرقة الشعبية اللبنانية” وصولاً إلى فترة مرض عاصي الرحباني في أوائل السبعينيات. هذه الشراكة، التي نُوقشت في لقاء بمتحف سرسق في بيروت، تظل محور اهتمام الباحثين والنقاد على حد سواء.

شهد الأسبوع الماضي لقاءً في “متحف سرسق” في بيروت، تحت عنوان “الإشعاع”، جمع المخرج منجد الشريف والباحث في الموسيقى أكرم الريس، بالإضافة إلى روينا بوحرب من المتحف. ركز الحوار على كواليس هذه الشراكة الفنية النادرة، وكيف تم اكتشاف صوت فيروز المميز، والدور المحوري الذي لعبه صبري الشريف في دعم هذه المواهب وتقديمها للجمهور. كما سلط الضوء على التحديات التي واجهتهم والمسيرة الصعبة التي أثمرت عن تلك الكنوز الفنية التي نفتخر بها.

بدايات فيروز واكتشاف الموهبة

أشار الباحث أكرم الريس إلى أن السنوات الأولى في مسيرة فيروز الفنية لا تزال تحمل بعض الغموض، خاصة بعد اكتشاف موهبتها من قبل محمد فليفل أثناء دراستها المدرسية. وقد لعب فليفل دوراً هاماً في إقناع عائلتها المحافظة بالسماح لها بالغناء، كما سعى للحصول على منحة دراسية لها في الكونسرفتوار لتنمية قدراتها الموسيقية. بدأت فيروز مسيرتها الغنائية في الكورس الذي كان يقدمه فليفل في الإذاعة اللبنانية، وهو برنامج كان يبث غالباً أيام السبت.

تُروى روايات عديدة حول كيفية وصول صوت فيروز إلى عاصي الرحباني. تشير بعض المصادر إلى أن مدير البرامج في الإذاعة، حافظ تقي الدين، استمع إلى صوتها وأعجب به، وأحالها إلى لجنة استماع ضمت الملحن حليم الرومي، الذي أطلق عليها اسمها الفني وأبلغ عاصي بموهبتها. ومع ذلك، لم يكن اللقاء الأول بين فيروز وعاصي الرحباني فورياً، واستغرق بعض الوقت حتى نما التفاهم والإعجاب المتبادل.

أول أغنية خاصة قدمتها فيروز عبر الإذاعة اللبنانية كانت باللهجة المصرية في فبراير عام 1950، من ألحان حليم الرومي، وهي أغنية “تركت قلبي وطاوعت حبك”. بينما يُنسب إليها أول تعاون مع الأخوين رحباني أغنية “حبذا يا غروب” للشاعر قبلان مكرزل، إلا أن جداول برامج الإذاعة تظهر أغنية سابقة بعنوان “جناتنا” قدمتها في نوفمبر عام 1950.

دور صبري الشريف في دعم الرحبانيات

تحدث المخرج منجد الشريف عن اللقاء الأول بين والده، صبري الشريف، والأخوين رحباني في بيروت. جاء عاصي ومنصور الشريف من قبرص، حيث كانت تقع إذاعة “الشرق الأدنى”، بهدف اكتشاف هذه الظاهرة الفنية الجديدة. وسأل عاصي ومنصور: “أين درستما الموسيقى؟ في إسبانيا؟” فأجاباه بأنهما لم يغادرا لبنان، وتعلموا الموسيقى في بيروت على يد الخوري بولس الأشقر.

أبدى عاصي اهتماماً بالعمل على التراث الموسيقي، وهو ما كان يشاركه فيه صبري الشريف، الذي أشار إلى أن إذاعة “الشرق الأدنى” كانت تعمل بالفعل على مشروع مماثل، حيث أرسلت الشاعر أسعد سعيد إلى فلسطين لإجراء دراسة حول الفلكلور. هكذا، اجتمعا على حب التراث، الذي اعتبروه أساس الهوية، وكلاهما كان يدرك أهميته.

خصص صبري الشريف 70 في المئة من ميزانية “الشرق الأدنى” المخصصة للعالم العربي لصالح الأخوين رحباني، إيماناً بموهبتهما، مما أثار جدلاً واسعاً ونقد بعض الأطراف، التي اتهمت صوت فيروز بـ “المواء” واعتبرت أغانيها “سامة” لتأثيرها “الغريب” على الأغنية العربية. لكن هذه الانتقادات لم تثن الشريف والأخوين رحباني عن المضي قدماً في مسيرتهما الفنية.

تطور الأغنية القصيرة والمسرحيات

الأغنية القصيرة والسريعة لم تكن ابتكاراً رحبانياً خالصاً، بل تعود جذورها إلى المسرح الغنائي المصري في بداية القرن الماضي، خاصة أغنيات مسرحيات سيد درويش مثل “زوروني”، التي أعادت فيروز تفسيرها. كما تأثروا بالسينما الغنائية، وخاصة أعمال محمد عبد الوهاب، حيث كانت الأغاني تُكتب بما يتناسب مع المشاهد. بالإضافة إلى ذلك، أدى محدودية مساحة الأسطوانات إلى ضرورة تقصير الأغنيات.

نظرًا لعمل الأخوين رحباني في عصر الإذاعة، كان لديهما وعي كبير بأهمية تكثيف الزمن في الإذاعة، وتقطير المعاني وتركيزها، لضمان وصولها إلى المستمعين بأكبر قدر ممكن من الوضوح. هذا الوعي ساهم في تطور أسلوبهم في كتابة الأغاني.

تكلّف الرئيس كميل شمعون صبري الشريف بإقامة “مهرجانات بعلبك” عام 1957. ورغم ضيق الوقت، نجح الشريف والأخوين رحباني في تقديم “ليالي الحصاد”، بمشاركة الأوركسترا بقيادة توفيق الباشا، والراقصين مروان ووديعة جرار الذين تدربوا في روسيا خصيصاً لهذا المهرجان. حظي المهرجان بنجاح كبير.

تُوّج التعاون بين فيروز والأخوين رحباني وصبري الشريف بتأسيس “الفرقة الشعبية اللبنانية” عام 1960. أصبحت هذه الفرقة بمثابة كيان رسمي يضم عاصي ومنصور رحباني، وصبري الشريف، وتُوزَّع الحقوق بينهم بالتساوي. كان صبري الشريف يتولى جميع المهام الإدارية والفنية، بما في ذلك اختيار الموسيقيين.

يعمل منجد الشريف حالياً على أرشفة جميع المواد المتعلقة بهذه الشراكة الفنية، بما في ذلك التسجيلات والأوراق والمخطوطات. يهدف إلى جمع هذه المواد ووضعها في خدمة الباحثين والمهتمين بالتراث الموسيقي العربي. كما يواصل الشريف تحرير مذكرات والده، صبري الشريف، استعداداً لنشرها في كتاب.

من المتوقع أن يستمر العمل على أرشفة وتوثيق هذا الإرث الفني الهام في الأشهر والسنوات القادمة، مع التركيز على إبراز الدور المحوري الذي لعبته هذه الشراكة في تطوير الموسيقى والمسرح العربي. تبقى الشراكة بين فيروز والأخوين رحباني وصبري الشريف نموذجاً فريداً للتعاون الإبداعي الذي أثمر عن أعمال خالدة ستظل تلهم الأجيال القادمة.

شاركها.