خيّم الارتباك والجدل على المشهد الليبي بعد اعتذار ألمانيا عن تحليل الصندوق الأسود لطائرة “فالكون 50” التي تحطمت في أنقرة الأسبوع الماضي، مما أدى إلى وفاة رئيس الأركان التابع لحكومة “الوحدة” المشير محمد الحداد ومرافقيه. هذا الحادث، الذي أثار تساؤلات حول أسباب سقوط الطائرة، دفع الليبيين إلى التكهن والبحث عن تفسيرات تتجاوز الروايات الرسمية.
وقع الحادث بعد أقل من 40 دقيقة من إقلاع الطائرة من أنقرة أثناء عودتها إلى طرابلس، يوم الثلاثاء الماضي، وأسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، بينهم خمسة ليبيين من كبار القادة العسكريين. وقد أدى هذا الحادث إلى صدمة كبيرة في ليبيا، وأثار مخاوف بشأن مستقبل التحقيقات والشفافية في كشف ملابساته.
الجدل حول الصندوق الأسود وتفسير أسباب سقوط الطائرة
القرار الألماني، الذي أعلنته وزارة الداخلية في حكومة “الوحدة الوطنية” الليبية، لم يُنظر إليه على أنه إجراء تقني بحت، بل أثار تساؤلات واسعة حول دوافعه وتوقيته. أكدت الحكومة الليبية أن دولاً أخرى قادرة على تحليل الصندوق الأسود، وأن بريطانيا اختيرت لاستكمال الإجراءات الفنية، بالتوازي مع تحقيقات ليبية – تركية مشتركة لا تزال جارية.
عضو لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب الليبي، علي الصول، شدد على أن “البرلمان يترقب نتائج شفافة ودقيقة ونزيهة للتحقيقات الجارية في حادث سقوط الطائرة”، مؤكداً ضرورة “تحييد هذا الملف الحساس عن أي توظيف أو تسييس أو اتهامات لأي طرف”. ودعا الصول إلى إشراك خبرات وكوادر ليبية متخصصة في مجال الطيران، إلى جانب أعضاء من مكتب النائب العام، لضمان سيادة القرار الوطني وتعزيز ثقة الرأي العام في نتائج التحقيق.
تساؤلات حول الشفافية والتحقيق المشترك
العديد من السياسيين والمحللين الليبيين اعتبروا الاعتذار الألماني “غير مقنع”، إذ يصعب التسليم بعجز تقني لدولة رائدة في صناعات الطيران والتحقيقات الفنية المعقدة. تساءل عضو مجلس النواب سعيد مغيب عن الجهة التي “لا تريد للحقيقة أن تظهر”، بينما أعرب عضو المجلس الأعلى للدولة سعد بن شرادة عن استغرابه من غياب لجنة تحقيق مشتركة تضم الحكومتين المتنافستين في ليبيا وتركيا.
بعض الفاعلين المحليين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث أدرج رئيس حزب “الائتلاف الجمهوري” عز الدين عقيل الحادث ضمن سياق أوسع أقرب إلى “نظرية المؤامرة”، معتبراً أن سقوط الطائرة لا يمثل مجرد خلل تقني، بل حلقة في سلسلة طويلة من الاضطرابات التي عاشتها ليبيا منذ عام 2011. أما الأكاديمي وأستاذ القانون الليبي مجدي الشبعاني، فقد رأى أن ألمانيا تمتلك قدرات متقدمة في تحليل الصناديق السوداء، وأن الامتناع عن القيام بهذه المهمة “من دون سبب قانوني أو فني واضح” يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة.
ردود الفعل المحلية والتحقيقات الجارية
في المقابل، حذر عضو الأمانة العامة لحزب “ليبيا النماء” حسام فنيش من التسرع في تفسير الحادث، مؤكداً أن الفصل بين المسارين الفني والسياسي أمر ضروري. وأشار إلى أن التسرع في تفسير الحادث سيزيد الغموض بدلاً من كشفه، وأن الحقيقة التقنية يجب أن ترسم حدود القراءة السياسية.
هذا الجدل الليبي الدائر، من منظور محللين مثل الباحث في المعهد الملكي البريطاني للدراسات الدفاعية والأمنية جلال حرشاوي، “ينطوي على مبالغة واضحة في سياق الأزمة السياسية الليبية وتراكماتها منذ 14 عاماً”. يعتقد حرشاوي أن الحادث لا يمكن فصله عن المناخ العام للصراع في ليبيا، ولكنه عبر عن “تشاؤمه من الوصول إلى نتائج حاسمة”، مستشهداً بحوادث طيران مشابهة حول العالم بقيت ملابساتها غامضة.
في الوقت الحالي، يتركز الاهتمام على التحقيقات الجارية، سواء الليبية التركية المشتركة أو تلك التي ستجريها السلطات البريطانية بعد استلامها الصندوق الأسود. أسباب سقوط الطائرة لا تزال غير واضحة، وتتزايد الدعوات إلى الشفافية والحيادية في التحقيقات لضمان كشف الحقيقة وتقديم المسؤولين إلى العدالة. من المتوقع أن تستغرق التحقيقات عدة أسابيع أو أشهر للوصول إلى نتائج نهائية، مع الأخذ في الاعتبار التعقيدات السياسية والأمنية التي تشهدها ليبيا.
من المقرر أن تقوم لجنة التحقيق الليبية التركية المشتركة بتقديم تقرير أولي عن نتائجها في غضون أسبوعين، بينما من المتوقع أن تبدأ السلطات البريطانية تحليل الصندوق الأسود فور استلامه. التحقيق في الحادث يمثل اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الأطراف الليبية على التعاون والعمل معاً لكشف الحقيقة، وتجنب أي تسييس للملف.
