رحل الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري عن عمر يناهز 70 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا سينمائيًا غنيًا وثّق القضية الفلسطينية وقدم أصواتًا لم تُسمع من قبل. اشتهر بكري بأدواره في أفلام مثل “هانا ك” و”جنين… جنين”، بالإضافة إلى مساهماته العديدة في السينما الإسرائيلية والفلسطينية. ويعتبر رحيل محمد بكري خسارة فادحة للسينما العربية والفلسطينية.
جاء رحيل بكري بعد صراع مع المرض، وأثار ردود فعل واسعة النطاق في الأوساط الفنية والسياسية الفلسطينية والعربية. وقد عُرف بكري بتعاطفه مع القضية الفلسطينية واستخدامه السينما كمنصة للتعبير عن آراءه ومواقفه.
بدايات محمد بكري السينمائية و فيلم “هانا ك”
بدأ بكري مسيرته الفنية في الثمانينيات، وشارك في العديد من الأفلام كممثل قبل أن يتجه إلى الإخراج. يعتبر فيلم “هانا ك” (1983) الذي أخرجه كوستا-غافراس نقطة تحول في مسيرته، حيث قدم فيه دورًا لشخصية فلسطينية تعاني من الظلم والتمييز. الفيلم، على الرغم من بعض الانتقادات حول تمثيله للقضية الفلسطينية، كان بمثابة نافذة غربية نادرة على واقع الفلسطينيين.
حسبما ذكر بكري في مقابلات سابقة، كان الفيلم بمثابة اختبار له أمام الكاميرا وفرصة للظهور على الساحة العالمية. وقد أشاد النقاد بقدرته على التعبير عن المشاعر والأحاسيس من خلال لغة الجسد والنظرات، حتى قبل أن ينطق بكلمة واحدة في الفيلم.
“جنين… جنين” والجدل السياسي
أثار فيلم “جنين… جنين” (2002) الذي أخرجه بكري جدلاً سياسيًا واسعًا، حيث تناول الأحداث المأساوية التي وقعت في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية. الفيلم، الذي يعتمد على شهادات شهود عيان وجنود إسرائيليين، يوثق عمليات القتل والتدمير التي تعرض لها المخيم.
واجه بكري صعوبات كبيرة في عرض الفيلم، حيث منعته السلطات الإسرائيلية من العرض عدة مرات، وأُحيل إلى المحكمة بتهمة التحريض على العنف. لكن الفيلم حظي بتقدير دولي، وفاز بجائزة “مهرجان قرطاج الذهبية” لأفضل فيلم وثائقي. ويعتبر هذا الفيلم من أبرز الأعمال السينمائية التي تناولت القضية الفلسطينية من منظور إنساني.
تأثير الفيلم ومسيرة بكري الإخراجية
على الرغم من الجدل الذي أثاره فيلم “جنين… جنين”، إلا أنه ساهم في تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين وفضح جرائم الاحتلال. وقد استمر بكري في مسيرته الإخراجية، وقدم العديد من الأفلام الوثائقية والروائية التي تتناول قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة. كما واصل العمل كممثل، وشارك في أفلام فلسطينية وإسرائيلية وعربية.
من بين أعماله الأخرى فيلم “عيد ميلاد ليلى” (2008) و”زنديق” (2008) وفيلمه الأخير “جنين… جنين” (2024) الذي عاد فيه لتوثيق المزيد من الشهادات حول الأحداث في جنين. وقد تميزت أعماله بتناولها للقضايا الشائكة بجرأة وموضوعية، وتقديمها لرؤية مختلفة عن الروايات السائدة.
إرث محمد بكري وتأثيره على السينما الفلسطينية
ترك محمد بكري بصمة واضحة على السينما الفلسطينية، حيث ساهم في تطويرها وتقديمها للعالم. وقد ألهم العديد من المخرجين والفنانين الفلسطينيين الشباب، وشجعهم على التعبير عن هويتهم وقضيتهم من خلال الفن. كما ساهم في بناء جسور التواصل بين السينما الفلسطينية والسينما العربية والعالمية.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر بكري من أوائل الفنانين الفلسطينيين الذين نجحوا في تحقيق شهرة واسعة على المستوى الدولي، وفتحوا الباب أمام فنانين آخرين للوصول إلى جمهور أوسع. وقد ساهم في تغيير الصورة النمطية عن الفلسطينيين في السينما العالمية، وتقديمهم كأفراد لديهم أحلام وطموحات وقصص تستحق أن تُروى.
من المتوقع أن يستمر تأثير محمد بكري على السينما الفلسطينية والعربية لسنوات قادمة، وأن تظل أعماله شاهدة على تاريخ القضية الفلسطينية ومعاناة شعبها. وسيظل اسمه محفورًا في ذاكرة السينما العربية كرمز للالتزام بالقضية الفلسطينية والإبداع الفني. وستستمر عائلته، من خلال أبنائه الممثلين، في حمل الراية والإسهام في إثراء المشهد الفني.
في الوقت الحالي، تُعرض أعماله في العديد من المهرجانات السينمائية العربية والدولية، وتلقى اهتمامًا كبيرًا من النقاد والجمهور. ومن المتوقع أن يتم تنظيم فعاليات خاصة لتكريمه في مختلف المدن الفلسطينية والعربية. وما زالت هناك العديد من المشاريع السينمائية التي كان يعمل عليها قبل وفاته، والتي من المحتمل أن يتم إنجازها من قبل أبنائه أو زملائه.
