يستكشف الفيلم الوثائقي العراقي “الأسود على نهر دجلة” قصة مدينة الموصل وما خلفته الحرب من آثار مدمرة على سكانها وهويتها الثقافية. يعود المخرج زرادشت أحمد إلى مسقط رأسه ليكشف عن صراعات إنسانية عميقة، بعد أن كان قد سعى سابقاً للابتعاد عن هذه المنطقة المضطربة. الفيلم الذي حصد جائزة “التانيت الفضي” في أيام قرطاج السينمائية يلقي الضوء على محاولات إعادة بناء المدينة واستعادة ذاكرتها.

الموصل: بين الدمار واستعادة الذاكرة

بدأت رحلة الفيلم كبحث عن قطعة أثرية مفقودة، وهي ما يعرف بـ”بطارية بغداد”. لكن، سرعان ما تحول مسار العمل بعد زيارة الموصل، حيث لفت انتباه المخرج مشهد بوابة رخامية مزينة بأسدين، وهي كل ما تبقى من منزل عائلة بشار، الصياد الذي يعيش في المدينة. هذا المشهد كان بمثابة نقطة تحول، وأدرك أحمد أنه أمام قصة أكبر بكثير من مجرد البحث عن أثر مسروق.

قصة بشار: حارس الذاكرة

يمثل بشار، صاحب المنزل المدمر، رمزاً للصمود والتشبث بالهوية. يحرص بشار يومياً على زيارة أطلال منزله، ليس للحزن عليه فحسب، بل لحراسة الأسدين اللذين يعتبرهما امتداداً لعائلته وتاريخه. يعاني بشار من شعور عميق بالتخلي، حيث يشعر بأن الدولة والمجتمع قد فشلا في احتضانه وتقديم الدعم له.

فخري: جامع الآثار ورسالة الحفاظ على التراث

بالتوازي مع قصة بشار، يقدم الفيلم شخصية فخري، الرجل الستيني الذي جمع أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية من بيوت مهجورة وأنقاض الحرب. حول فخري منزله إلى متحف مفتوح، ضحى فيه بكل ما يملك للحفاظ على جزء من تاريخ الموصل. في البداية، سعى إلى ضم بوابة منزل بشار إلى مجموعته، معتقداً أنه بذلك يحميها من الضياع، لكنه مع مرور الوقت، بدأ يدرك أن الحفاظ على التاريخ لا يجب أن يتم على حساب حياة الناس.

فاضل: موسيقى الأمل وسط الأنقاض

يضفي الموسيقار فاضل بعداً آخر على الفيلم، فهو من عاش سنوات الرعب تحت حكم تنظيم “داعش” وأخفى آلاته الموسيقية خوفاً من الموت. بعد التحرير، قرر فاضل العودة إلى الشارع، وعزف الموسيقى وسط الأنقاض، وقام بتدريس جيل جديد من الشباب، وخاصة الفتيات. تعكس عودة الموسيقى إلى الموصل انفتاحاً ثقافياً غير مسبوق، ورغبة في استعادة الحياة الطبيعية من خلال الفن.

تحديات التصوير في الموصل

لم يكن تصوير الفيلم أمراً سهلاً، فالموصل كانت وما زالت تشكل بيئة مليئة بالمخاطر. يواجه المصورون صعوبات في الحصول على التصاريح، ويثير وجودهم شكوك السلطات. إضافة إلى ذلك، كانت الألغام والعبوات المتفجرة لا تزال موجودة في الأحياء المدمرة، مما يشكل تهديداً مستمراً لسلامة فريق التصوير. على الرغم من هذه التحديات، استطاع المخرج زرادشت أحمد جمع أكثر من 600 ساعة من لقطات الفيديو، التي تعكس الواقع المعيش في الموصل.

الفيلم لا يركز على الأحداث السياسية أو العسكرية بشكل مباشر، بل يتناول الجوانب الإنسانية للحياة في الموصل، ويسلط الضوء على محاولات الناس للتكيف مع الوضع الجديد واستعادة أملهم في المستقبل. القصة ليست عن فقدان المنازل أو الآثار فحسب، بل عن فقدان الهوية، وعن الصراع بين التمسك بالماضي والرغبة في البدء من جديد. الفيلم يستكشف أيضاً موضوع التطرف وتأثيره على المجتمع العراقي، ويطرح أسئلة حول كيفية منع عودة هذه الأفكار.

يُظهر الفيلم الموصل كامتداد للمشهد العراقي الأوسع، وهي مدينة تتعافى من صدمة الحرب وتحاول بناء مستقبل أفضل. ومع ذلك، يذكر المخرج بأن التحديات لا تزال كبيرة، وأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة.

من المقرر أن يعرض الفيلم في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية خلال الأشهر القادمة، ويأمل المخرج أن يساهم الفيلم في تسليط الضوء على معاناة الشعب العراقي، وحشد الدعم لمشاريع إعادة الإعمار والتنمية. في الوقت الحالي، لا يوجد جدول زمني محدد لإطلاق الفيلم تجارياً، لكن من المتوقع أن يكون متاحاً عبر منصات البث الرقمي في المستقبل القريب. يبقى التحدي الأكبر هو ضمان وصول صوت الموصل وقصصها الإنسانية إلى جمهور واسع في جميع أنحاء العالم.

شاركها.