“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.

الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.

اكتشفت زينب أنها حامل، اكتشافها لم يأتِ بزغاريد ولا بأحلامٍ وردية، بل جاء أولاً على هيئة ارتباكٍ صامت: تأخرٌ طفيف في الدورة، تعب غير مألوف، غثيان خفيف في صباحات العمل. زينب، التي عاشت سنواتٍ طويلة تحت كلمة “عاقر”، لم تسمح لنفسها أن تُعلق أي أمل على هذه الأعراض. قالت لنفسها: “الغربة تُتعب الجسد، لا أكثر.” لكنها حين تكرّر الأمر، وحين صار جسدها نفسه يهمس بما لم تجرؤ على التصريح به، حملت صمْتها إلى طبيب الحيّ.

في غرفة الفحص، جلست قبالته متوترة، أوراقها في يدها: فحوصات قديمة من المغرب، تقارير أطباء سبق أن قالوا لها إن فرص الحمل شبه معدومة، نتائج تحاليل لزوجها السابق تُظهر ضعفًا واضحًا. الطبيب الفرنسي، ذو النظرة الهادئة، قلّب الأوراق واحدةً واحدة، سألها عن تاريخ زواجها الأول، عن سنوات الانتظار، عن قرار التبنّي. كانت تُجيب بخليط من العربية والفرنسية المكسورة، يساعدها محمد في ترجمة ما استعصى.

ثم طلب منها فحوصات جديدة، تحاليل دم، فحصًا بالأشعة. لم تقل شيئًا ليونس في اتصالها ذلك اليوم؛ اكتفت بأن تحدّثه عن الجوّ في فرنسا، عن مطرٍ خفيف لم يتوقف، وعن دروس اللغة.

حين عادت إلى الطبيب بعد أيام، كان يحمل في يده ملفًا جديدًا. جلس، نظر إليها بعينين جادتين، ثم قال بجملة بدأت تهزّ أسس يقينها السابق:

ـ سيدتي… فحوصاتك الآن لا تقول إنكِ “لا يمكن أن تحملي”، بل تقول إن حظوظ الحمل كانت ضعيفة مع زوجك السابق، بسبب مشكل لديه هو، وبسبب عوامل مشتركة بينكما.

تبادلت النظرات مع محمد، شعرت أن الدنيا ضاقت فجأة في الغرفة.

ـ لكن الأطباء هناك…

ابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة خالية من السخرية:

ـ الطب ليس نبوءة، هو حساب احتمالات. مع زوجٍ خصوبته ضعيفة، ومع وضعك الصحي آنذاك، كانت الفرص شبه معدومة. الآن، مع زوجٍ آخر وفحوص مختلفة… الوضع ليس نفسه.

تلعثمت:

ـ يعني…؟

قال بهدوء سريريّ، لكنّ كلماته وقعت كزلزال صغير:

ـ يعني أن حملك الآن ليس معجزة مطلقة، بل احتمال تحقّق.

ثم أضاف بعد لحظة:

ـ وأنتِ الآن… حامل بالفعل.

 

الكلمة الأخيرة لم تدخل أذنها دفعة واحدة. “حامل”. تردّد صداها بين جدران رأسها، اصطدمت بصورة يونس، بصورة نفسها وهي في المستشفى يوم كفالتها له، بصورة تقارير الأطباء السابقين. أحست كأنها تقف على حافة هاوية بين فرحين وخوفين: فرح أن جسدها يقدر أخيرًا على أن يحمل حياة، وخوف أن تكون هذه الحياة الجديدة خيانة لطفلٍ آخر حملته في قلبها وحده.

عند خروجهما من العيادة، سارا فترة في صمت. الهواء البارد كان يلسع وجهيهما، لكن النار التي اشتعلت داخلهما كانت أقوى. محمد يمشي بجانبها، خطواته أقل ثباتًا من العادة. حتى يده التي امتدت تلقائيًّا لتسند كوعها بدت مترددة للحظة قبل أن تستقر.

قالت وهي بالكاد تجد صوتها:

ـ لم أكن أظن… أن هذه الكلمة ستُقال لي يومًا.

ـ “حامل”…

ـ نعم.

انحبست دمعة في عينها، لم تكن تعرف إن كانت دمعة فرح أم خوف.

ـ وكنتُ أظن أن يونس… هو طفلي الوحيد في هذه الدنيا.

في المساء، جلست على طرف السرير في الشقة الصغيرة، تضع يديها على بطنٍ لم يتغيّر شكله بعد، لكنها تعلم أنه يُخفي سرًا جديدًا. محمد يتحرك في الغرفة مثل من يبحث عن شيء أضاعه في ذهنه، لا في المكان.

ـ ماذا تشعرين؟

ـ كمن فتح بابًا على نورٍ شديد… لا أعرف إن كنتُ قادرة على النظر فيه.

ـ وأنا… أشعر كمن بنى حياته على أرض ظنّها ثابتة، فاكتشف أن تحتها طبقة أخرى لم يعرفها.

محمد، في أعماقه، كان يعيش حيرته الخاصة. حين قرّر أن يكون أبًا ليونس، فعل ذلك وهو مقتنع أن زينب لا تستطيع الإنجاب. قال لنفسه: “سأكون لهذا الطفل الأب الذي لم يعرفه، وسأمنح نفسي فرصة الأبوة الوحيدة المتاحة لي.”

الآن، وهو يسمع كلمة “حمل” تُقال في سياق زواجه من زينب، انفتح أمامه احتمال آخر: أن يكون له “ابن من صلبه”، كما تقول اللغة الاجتماعية القاسية. تساءل، دون أن يجرؤ على التعبير بصوتٍ عالٍ أول الأمر: “ما الذي يجبرني أن أقاتل القوانين من أجل طفلٍ لا يحمل اسمي، في حين أن الكون يمنحني الآن طفلًا سيحمل اسمي بسهولة؟”

لم يكن هذا التساؤل خيانة صريحة، لكنه كان اعترافًا بأن النفس البشرية ليست ملاكًا صافياً. جلس تلك الليلة وحده في الصالون، الضوء خافت، وزينب في الغرفة تحاول أن تهدّئ عاصفة جديدة في داخلها. تساءل: “هل كنت سأختار كل هذا التعقيد لو علمتُ من البداية أن الإنجاب ممكن؟” ثم أجاب نفسه قبل أن يتهمها: “لكنني لم أندم يومًا على قرار قبول يونس… لم يكن عبئًا، بل معنى.”

بين هذين الصوتين، كان قلبه يتأرجح.

زينب من جهتها لم يكن صراعها أقل تعقيدًا. حملت الهاتف، كادت أن تتصل بيونس لتخبره، ثم توقفت. شعرت أن الخبر، وهو في تلك الغرفة البعيدة في بيت فاطمة، لن يصل إليه كنعمة كاملة، بل قد يطعنه: “سيكون لها طفل هنا… وأنا هناك.”

تساءلت مع نفسها: “هل أحقّ له بهذا الفرح؟ أم أن عليّ أن أختزله، أن أؤجّله، أن أشاركه به بطريقة لا تزيد البعد بيننا؟”

في الليالي التالية، كانت إذا وضعت يدها على بطنها، تضع يدًا أخرى افتراضية على رأس يونس، كمن يحاول أن يقسم قلبه بالتساوي بين غائب وحاضر.

في المغرب، لم يكن يونس يعرف شيئًا بعد عن هذا التحوّل الهائل الذي بدأ يتشكّل في حياة زينب ومحمد. لكنّ جسده وروحه بدآ يلتقطان إشاراتٍ غريبة دون وعي كامل. ازدادت أحلامه عن الأطفال: يرى نفسه يحمل رضيعًا لا يعرف لمن يكون، أحيانًا يراه في بيت زينب، وأحيانًا في بيت فاطمة، وأحيانًا في قرية بعيدة عند سفح الجبل.

كان يستيقظ من تلك الأحلام وهو يشعر بثقلٍ غامض: هل هذا الرضيع رمز لطفولةٍ فقدها، أم رمز لشيءٍ آتٍ يسحب من قلبه مكانًا كان يظنه محفوظًا؟

ذات ليلة، قال لفاطمة وهو يحاول أن يشرح شيئًا لا يُشرح بسهولة:

ـ أشعر أحيانًا… أنني أقف في طابور، وهناك من ينادى عليهم بأسمائهم ليدخلوا إلى بيتٍ واسع… أما أنا، فأظلّ الأخير.

سألته:

ـ ولماذا تظنّ نفسك الأخير دائمًا؟

ـ لأن كل مرةٍ أظنّ أن الباب فُتح لي، يأتي شخص آخر قبلي.

لم تكن تعرف أن هذه الجملة تلخّص مسار حياته منذ لدغة الأفعى: في المستوصف، في بيت التبنّي، في قرار الطلاق، في ملف لمّ الشمل… والآن، ربما، في باب جديد لحياةٍ تُخلق في رحم زينب.

في فرنسا، بدأ حمل زينب يفرض حضوره تدريجيًا: تعبٌ زائد في الصباح، زيارات للطبيب، نصائح غذائية، نظرات فضول من بعض زميلاتها في دورة اللغة. واحدة منهنّ، امرأة إفريقية دافئة الملامح، قالت لها بابتسامة:

ـ هذا رزق من الله… سيملأ حياتكِ.

ابتسمت زينب بخفوت، لكنها لم تستطع أن تقول: “حياتي مليئةٌ أصلاً بطفلٍ آخر بعيد.”

في البيت، حين جلس محمد ذات مساء قربها، وضع يده بتردد على بطنها، كمن يختبر حقيقة معلومة نظريًا:

ـ لم أتخيّل أن هذا ممكن…

ثم صمت.

ـ وفكرتَ… في يونس؟

نظر إليها، لم يتهرب:

ـ فكرتُ في كل شيء… في ابني القادم، في يونس، في نفسي.

ـ وهل تغيّر شيء في إحساسك نحوه؟

تردد لحظة، ثم قال بصدقٍ مؤلم:

ـ كان يونس هو الباب الوحيد للأبوة في حياتي… الآن، هناك باب آخر يُفتح. هذا لا يغلق الأول، لكن… يجعلني أتساءل عن حجم ما أستطيع حمله.

هذا الاعتراف لم يُفاجئها تمامًا؛ كانت تتوقعه سراً. لكنها شعرت به كخنجر صغير:

ـ يعني أنك قد ترى في وجود يونس… عبئًا إضافيًا الآن؟

ـ لا أريد أن أراه هكذا، لكنني أُصارحك بما يدور في رأسي. أنا رجلٌ في منتصف العمر، سأصبح أبًا لطفل هنا، في هذا البلد، بسهولة قانونية. وفي الوقت ذاته، أقاتل من أجل طفلٍ آخر يعتبره القانون “حالة معقّدة”.

ـ وأنا؟

ـ أنتِ بينهما… أمّ لهذا، وأمّ لذاك.

سكتت طويلًا، ثم قالت بهدوء فيه حسم:

ـ اعلم يا محمد… أن فرحي بهذا الحمل لا يُلغي أمومتي ليونس. لكنّ خوفي الآن كبر. أخاف أن يظنّ هو، هناك، أنني استبدلته. وأخاف أن تظنّ أنت، هنا، أنني سأحبّ هذا أقلّ أو ذاك أكثر.

ثم أضافت:

ـ أنا لا أملك ترف تقسيم القلب بالحساب.

في هذه اللحظة بالذات، كأن شيئًا في البيت تغيّرت درجته. لم يعودا زوجين ينتظران فقط ورقة لمّ شمل، بل أصبحا أبوين أمام امتحانٍ من نوع آخر: كيف يُمكن لحياةٍ جديدة أن تولد دون أن تدهس تحتها حياةً أخرى لم تستقر بعد؟

في المغرب، سيصل هذا الخبر يومًا ما، بطريقةٍ ما: ربما عبر مكالمةٍ تتردّد زينب في إجرائها ثم تقرر أن الصدق هو الطريق الوحيد، وربما عبر زلّة لسان من قريب، أو سؤال عفويّ من طفلٍ آخر. وحين يصل، لن يكون مجرد “معلومة” عن جنينٍ في بطن أمٍّ بعيدة، بل سيكون زلزالاً في قلب طفلٍ عاش عمره وهو يظنّ أنه “الابن الوحيد” لامرأةٍ لا تلد.

في فرنسا، سيواصل الطبيب متابعة الحمل، وستزداد الابتسامات المهنّئة، وسيتعلّم محمد أن يختار اسماً لطفله القادم، وربما يبدأ في تخيّل ملامحه. وفي مكانٍ ما، في ملفّ يونس، ستظل عبارة “قيد الدراسة” معلّقة، لكن هذه المرّة، لن تكون الدراسة فقط لمصلحته القانونية، بل لمستقبل علاقته مع أمّه وزوجها وابنِهما القادم.

المفاجأة هنا لم تكتمل بعد ملامحها، لكنها بدأت تُلقي بظلّها على الجميع: على زينب التي تحاول أن تفرح دون أن تخون، على محمد الذي يجد نفسه موزّعًا بين بابيْن للأبوة لم يكن يتوقعهما معًا، وعلى يونس الذي، من غير أن يعلم، قد يجد نفسه مرة أخرى في قلب معادلةٍ لم يُستشر فيها، معادلةٍ إن اختلّ توازنها، قد تقلب الحكاية رأسًا على عقب، وتعيد تعريف من يكون “الابن” ومن تكون “الأم” ومن يستحق أن يحمل لقب “الأب” أمام الناس وأمام نفسه.

يتبع…

المصدر: العمق المغربي

شاركها.