أمد/ غزة: رغم انتهاء حرب الإبادة الإسرائيلية، يحل عيد الميلاد بلا أضواء ولا مظاهر احتفال للعام الثالث، في قطاع غزة الذي ما زال يئن تحت آثار القتل والقصف والنزوح.
فالكنائس التي كانت في مثل هذا الوقت من كل عام تتزين وتتجهز لاستقبال الأعياد، بات الحزن يخيم عليها، جراء ما لحق بها خلال عامي الحرب التي بدأتها إسرائيل في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وانتهت باتفاق لوقف إطلاق نار في 10 أكتوبر الماضي.
واجهة كنيسة العائلة المقدسة في مجمع دير اللاتين (كاثوليكية) شرقي مدينة غزة، والتي تحمل الصليب، تقف جريحة وشاهدة على هذه الإبادة، بعدما لحقها أضرار من القصف الإسرائيلي.
وتعرضت الكنيسة خلال العامين الماضيين لعدة استهدافات إسرائيلية، أسفر آخرها في تموز/ يوليو 2025، عن استشهاد 3 نازحين وإصابة 9 آخرين، بينهم الأب جبرائيل رومانيللي كاهن رعية الكنيسة.
فيما قتل الاحتلال الإسرائيلي خلال عامي الإبادة، 20 مسيحيا فلسطينيا في هجمات على أنحاء متفرقة بالقطاع، وفق تصريح سابق للمدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثواتبة، للأناضول، أكد فيه أن جيش الاحتلال الإسرائيلي استهدف 3 كنائس رئيسية بغزة أكثر من مرة.
وإلى جانب الذكريات المؤلمة التي تحتفظ بها الكنيسة، فإنها ترعى بين جدرانها عددا من العائلات المسيحية التي فقدت منازلها خلال الإبادة.
كل عائلة منهم مثقلة بذكريات مؤلمة عاشتها خلال الحرب من فقد ومأساة، إذ لم تبق إسرائيل للمجتمع المسيحي بوصفه جزءا من النسيج الاجتماعي لقطاع غزة، أي مساحة للفرح أو الاحتفال.
ويتبع نحو 70 بالمئة من مسيحيي قطاع غزة لطائفة الروم الأرثوذكس، بينما يتبع البقية لطائفة اللاتين الكاثوليك.
صلوات فقط
مدير عمليات البطريركية اللاتينية في غزة ورئيس لجنة الطوارئ التابعة للكنيسة الكاثوليكية، جورج أنطون، قال إن احتفالات هذا العام ستقتصر على القداس والصلوات.
وتابع في حديث للأناضول، أن احتفالات هذا العام لا تختلف عن العامين الماضيين، بفعل تداعيات الحرب.
وأفاد بأن “الصلوات والقداس ستكون داخل مبنى الكنيسة، دون وجود احتفالات خارجية أسوة بكل سنة (أي قبل الإبادة)”.
وقبل اندلاع الحرب، كانت كنائس غزة تجري احتفالات في ساحة الكنيسة الخارجية، حيث تُضاء شجرة ميلاد كبيرة وتُعلق الزينة، إلى جانب إقامة طقوس احتفالية أخرى.
وأشار أنطون أيضا إلى عدم وجود برامج احتفالية خاصة بـ”الأطفال وكبار السن والعائلات”.
الحزن سيد الموقف
وفي حديثه، يقول أنطون إن الفلسطينيين بشكل كامل وبمن فيهم المجتمع المسيحي، لم يخرجوا بعد من أجواء الحرب.
وأردف: “ما زلنا في وضع غير مستقر، متأثرين بالحرب، ومحبطين، وحزانى.. وكما يُقال بالعامية دم الشهداء لم يبرد”.
وأوضح أن جروح الفلسطينيين التي لم تلتئم بعد وأثر الإبادة غيّبا أي مظاهر فرح بالأعياد.
وذكر أن المسيحيين، بوصفهم جزءا من المجتمع الفلسطيني، تعرضوا للقتل أيضا خلال عامي الإبادة فيما دمر الجيش الإسرائيلي “منازلهم ومحلاتهم ومدارسهم ومستشفياتهم”.
وأكمل مدير عمليات البطريركية اللاتينية في غزة: “لن نحتفل وكأن شيئا لم يكن”.
إلى جانب ذلك، فإن الحرب الإسرائيلية تسببت أيضا في نزوح أعداد من المسيحيين إلى جنوب القطاع، وسفر بعضهم للخارج، وفق قوله.
وقبل اندلاع الإبادة، كان عدد المسيحيين في قطاع غزة يُقدر بنحو ألف نسمة من إجمالي مجموع السكان البالغ 2.4 مليون فلسطيني.
رسالة “سلام”
وقال أنطون إنه بعد عامين من الحرب حان الوقت لأن يدق العالم “جرس السلام”.
وأضاف: “العالم كله رأى عدم جدوى الحروب التي لم تحقق إلا الموت والدمار، وسط تأثر الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي رغم الفارق (الكبير)”.
وبالتزامن مع أعياد الميلاد، شدد أنطون على ضرورة أن ينظر العالم لأحقية الشعب الفلسطيني بـ”دولة مستقلة”.
وزاد: “يجب أن يُنظر للشعب الفلسطيني بطريقة مختلفة، وعملية السلام يجب أن تكون مختلفة هذه المرة.. يجب أن يعطوا الحق للشعبين بالعيش بسلام”.
وفي رسالته، دعا أنطون العالم لأن يكون مثالا للسلام، ومتسامحا، وقويا يفرض حقوق الشعوب بالاستقلال والسيادة.
فقد ونزوح
داخل مبنى الكنيسة، تحاول مجموعة من الفتيات المسيحيات الخروج من أجواء الحزن والخوف، بتعليق زينة خجولة على شجرة ميلاد متوسط الحجم، أخذت ركنا في إحدى الزوايا.
ولم تبدِ الفتيات مظاهر فرح باقتراب العيد، إذ ظهرن بملابس يومية قاتمة اللون، تعكس شعورهن وتأثرهن بالإبادة، دون ابتسامات.
إلى جوارهن، تؤدي الفلسطينية فاتن السلفيتي صلاتها، وهي تمسح دموع الفقد على نجلها وزوجها، اللذين قضيا خلال الإبادة.
وقالت السلفيتي للأناضول بصوت مثقل بالحزن، إن هذا العيد هو الأول الذي يمر بعد الحرب، لكنه بلا مظاهر أو شعور بالفرحة جراء الفقد.
وأوضحت أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل نجلها خلال الإبادة، وهو في طريقه لجلب الطعام تاركا وراءه 4 أطفال، بينما توفي والده المريض بعد 40 يوما من مقتله حزنا عليه.
ومنذ 2023، تغلق إسرائيل معابر قطاع غزة وتفرض قيودا على دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، ما تسبب بتدهور صحة الجرحى وأصحاب الأمراض المزمنة، ووفاة عشرات منهم.
ورغم انتهاء الحرب، يتنصل الاحتلال من الإيفاء بالتزاماتها التي نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار، وتواصل فرض القيود على دخول الأدوية والمستلزمات الطبية.
وأضافت السلفيتي: “لا يوجد فرحة داخل قلوبنا.. الوضع العام صعب على الجميع. عايشنا الكثير من الأحداث المؤلمة. غزة كلها خراب ودمار وفقد، والكلمات لا تكفي للوصف”.
وتشير إلى أنها تعيش داخل الكنيسة، منذ أن نزحت إليها خلال الحرب، بعدما ألحقت إسرائيل أضرارا كبيرة في منزلها وكذلك عدد من العائلات المسيحيات.
ومع تردي الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين جراء الحرب، أوضحت السلفيتي أن الكنيسة تزودهم بكافة احتياجاتهم من طعام وشراب وملابس إلى جانب الإيواء.
ولفتت إلى أنها تفتقد أجواء الأعياد التي كانت تحل برفقة نجلها وزوجها، ووسط تجهيزات وفرحة الأطفال التي أصبحت اليوم ممتزجة بالرعب والخوف جراء الحرب.
وفي ختام حديثها، أعربت السلفيتي عن أمنياتها بأن يحل الأمان والسلام على قطاع غزة والأمة الإسلامية والمسيحية، متابعة: “نريد حياة سعيدة”.
فرحة أطفال منقوصة
بعد أن أنهت تعليق بعض من الزينة على الشجرة، قالت الطفلة مريم أنطون (12 عاما)، إن هذه الطقوس البسيطة أعادت للأطفال جزءا من الشعور بالعيد.
وتابعت للأناضول، أنها لا تشعر بالفرحة حيث تفتقد جدتها وعمتها، واللتين فقدتهما خلال عامي الإبادة، دون توضيح ملابسات ذلك.
وأوضحت أن إسرائيل خلال الحرب استهدفت كنيسة العائلة المقدسة، وبقية الكنائس، بينما تواصل الاستهداف حيث ألقى الجيش مؤخرا صوبها قنبلة صوت.
وأشارت إلى أنه رغم انتهاء الحرب، فإن أصوات القصف الإسرائيلي وإطلاق الرصاص ما زالت تدوي في المكان.
ومنذ إعلان وقف إطلاق النار، ارتكبت إسرائيل مئات الخروقات ما أسفر عن استشهاد وإصابة مئات الفلسطينيين.
وأعربت الطفلة عن أمنياتها في أن يحل العيد القادم بظروف أفضل ودون حرب، وفقدان للأحبة، وأن يعيش العالم في أجواء من الأمان والسلام.
