أين ذهب الرفاق؟ تأملات في فكر وتجربة اليسار (6)

د.ناهد محمد الحسن

 

الماركسية، الحزب الشيوعي السوداني، وقضية المرأة

لم تكن قضية المرأة في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني مسألة هامشية أو ملحقة بالبرنامج السياسي، بل كانت منذ البدايات في قلب مشروعه التقدمي. فقد أدرك الحزب مبكرًا أن النساء يشكّلن أحد أهم مواقع القهر الاجتماعي، وأحد أعقد ميادين الصراع مع البنى التقليدية، ولهذا استثمر في تنظيم النساء، واحتضن الاتحاد النسائي السوداني، وفتح المجال لقيادات نسوية شجاعة صنعت تاريخًا لا يمكن إنكاره [1].

 

غير أن هذا التاريخ، على نُبله، لا يُقرأ اليوم دون مساءلة. فالمأزق لم يكن في النوايا، ولا في شجاعة الرائدات، بل في النموذج النظري والتنظيمي الذي حكم العلاقة بين الحزب والمرأة، وحدّد سقف الممكن والمسموح، وأحيانًا حوّل التحرر إلى صورة مكتملة لا تُمس.

 

المرأة بين التحرير والتمثيل: من الذات إلى الرمز

 

مثّلت فاطمة أحمد إبراهيم ذروة هذا التناقض. كانت امرأة استثنائية، مناضلة، وأيقونة تاريخية بحق. لكنها من حيث لا تقصد تحوّلت إلى نموذج معياري للمرأة المناضلة داخل الحزب: محتشمة، منضبطة، متسقة مع “الذوق الثوري” السائد، وقابلة للتمثيل الجماهيري [2].

 

هنا لا تكمن المشكلة في فاطمة أحمد إبراهيم نفسها، بل في سجن المرأة داخل الأيقونة. فعندما تتحوّل المناضلة إلى رمز مكتمل، يُطلب من الأخريات أن يشبهنها لا أن يكنّ أنفسهن. وبهذا المعنى، لا تُقمع المرأة فقط سياسيًا، بل نفسيًا أيضًا، إذ يُعاد تشكيل ذاتها وفق صورة مثالية خارجية، تُكافئ الامتثال وتعاقب الاختلاف.

 

من منظور علم النفس النقدي، يشبه هذا ما وصفه باولو فريري بـ تربية المقهورين، حيث يُعاد إنتاج القهر عبر النماذج “الإيجابية” نفسها، فيتعلّم المقهور أن يرى ذاته بعين السلطة، حتى حين تكون السلطة ثورية في خطابها [3]. فالقمع لا يعمل دائمًا بالعنف، بل بالقدوة المغلقة.

 

فاطمة بابكر: الاشتباك الذي لم يكتمل

 

في هذا السياق، تبرز فاطمة بابكر محمود لا بوصفها “نقيضًا” لفاطمة أحمد إبراهيم، بل بوصفها احتمالًا فكريًا لم يُستثمر. لم تكن فاطمة بابكر متمردة على الحزب، ولا خارجة عليه، بل كانت ابنة هذا المشروع، ومثقفة عضوية بالمعنى الغرامشي، اشتبكت مع قضايا المرأة من داخل الماركسية ثم عند حدودها [4].

 

تميّز مشروع فاطمة بابكر بثلاثة أمور جوهرية:

أولًا، إصرارها على التنظير والتوثيق، في مجتمع اعتاد المشافهة وتجنّب الكتابة خوفًا من السلطة أو من شبكات العلاقات.

ثانيًا، نقدها الصريح للذكورية المستبطنة داخل الحزب، لا بوصفها انحرافًا أخلاقيًا، بل بوصفها بنية ثقافية أعادت إنتاج الوصاية على النساء [5].

ثالثًا، جرأتها في مساءلة المسكوت عنه: الجنسانية، الجسد، الخبرة الشخصية، والبعد الروحي، وهي أسئلة ظلّ الحزب يتجنّبها بحجة “الأولويات الوطنية”.

 

كان من الممكن لهذا الاشتباك أن يوسّع أفق الحزب، وأن يطوّر رؤيته لقضايا المرأة، لو أُتيح له الحيّز ذاته الذي أُتيح للأيقونة. لكن ما حدث هو العكس: التوازي دون التفاعل. فاطمة أحمد إبراهيم رمز، وفاطمة بابكر باحثة نقدية، وكلتاهما في فضاء واحد، دون أن يتحوّل الاختلاف إلى حوار منتج.

 

الماركسية والمرأة: المنهج وحدوده

 

لا يمكن إنكار أن الماركسية قدّمت أدوات تحليل قوية لفهم اضطهاد النساء، خاصة عبر ربطه بالبنية الاقتصادية وتقسيم العمل بين العام والخاص. وقد مكّن هذا التحليل الحزب الشيوعي من رؤية النساء بوصفهن فاعلات تاريخيات لا مجرد ضحايا [6].

 

لكن المأزق ظهر حين تحوّلت الماركسية من منهج مفتوح إلى سقف تفسيري. فتمّ التعامل مع قضايا الدين، والروح، والهوية الثقافية، باعتبارها “بنى فوقية” يمكن تأجيلها أو تحييدها. هذا التبسيط لم يُنصف السودانيين، ولا النساء، في مجتمع يشكّل الدين فيه جزءًا من المعنى اليومي للذات.

 

تُظهر سوندرا هيل، في دراستها المقارنة، كيف أن الحزب الشيوعي وقيادات الاتحاد النسائي اختاروا التعايش مع النظام الثقافي التقليدي، مبرّرين ذلك بـ “الواقع الملموس”، وهو ما أدّى عمليًا إلى ترك قضايا الأحوال الشخصية، والجندر، والعمل المنزلي، خارج الاشتباك الجذري [7].

 

الدين: من الخصومة إلى الحق

 

هنا تبرز إحدى أعمق الإشكاليات: الخوف من الدين. لم يكن هذا الخوف بلا مبررات، في ظل استخدام الإسلام السياسي للنصوص لتكريس الهيمنة الذكورية. لكن التعامل مع الدين ككتلة واحدة، أو كبنية قمعية خالصة، حرم النسوية السودانية من أحد أهم ميادين الاشتباك.

 

فالحق في التدين حق نسوي أيضًا. والنساء لا يتحررن بنزع هذا البعد عن ذواتهن، بل بإعادة تأويله. وقد قدّمت مدارس فكرية أخرى، كالفكرة الجمهورية، تصوّرات متقدمة لحقوق النساء من داخل الدين، استنادًا إلى قراءة مقاصدية وتاريخية للنص [8]. تجاهل هذه المساهمات لم يكن موقفًا علمانيًا متقدّمًا، بل كان أحيانًا انسحابًا من ساحة الصراع.

 

النسوية، التعدد، ومعارك الجبهات المتداخلة

 

تعلّمنا تجربة فاطمة بابكر، والنسويات السودانيات عمومًا، أن معارك النساء متعددة الجبهات: اقتصادية، سياسية، ثقافية، دينية، ونفسية. ولا يمكن لأداة واحدة أن تهدم كل القيود. خصوصا كما قالت اودري لورد ان ادوات السيد لا تهدم منزله و أضيف هنا ان أدوات السيد لا تهدم منزله، إذا استُخدمت وحدها. فالحل ليس في هجر الأدوات، بل في تعددها. لماذا لا تستخدم كل امرأة مرجعيتها المعرفية لتحرير المجال المشترك؟ لماذا لا يُنظر إلى النسوية الإسلامية، أو الصوفية، أو البيئية، لا كمنافسات، بل كمسارات مكمّلة، ما دامت تسهم في توسيع الحريات وخدمة القيمة العليا: العدالة [9].

 

لم يكن الصراع السياسي وحده من اعاق العمل المشترك. الذي فعل ذلك ايضا هو الانغلاق النظري، والخوف من الاختلاف، وتحويل المرجعية إلى هوية صلبة.

 

خاتمة: ما الذي يمكن إنقاذه؟

 

لم يفشل الحزب الشيوعي السوداني في قضية المرأة لأنه لم يناضل، بل لأنه ناضل ضمن حدود نموذج لم يسمح له برؤية تعقيد التجربة النسوية كاملة. ومع ذلك، يبقى تاريخه، وشجاعة رائداته، ومبادراته المبكرة، رصيدًا لا يُمحى.

 

السؤال اليوم ليس: من كان على حق؟

بل: كيف نتعلّم من هذا الإرث دون أن نحبسه في تمجيد أو إدانة؟

 

ربما تكون الإجابة في الاعتراف بأن تحرر النساء لا يُبنى بأيقونة واحدة، ولا بنظرية واحدة، بل بحوار مفتوح بين ذوات حرّة، تعرف أن العدالة لا تأتي من طريق مستقيم، بل من مسارات متقاطعة.

 

 

المراجع :

 

[1] Fatima Ahmed Ibrahim, Women, Gender, and Politics in Sudan.
[2] Abdullah Ali Ibrahim, كتابات عن فاطمة أحمد إبراهيم والاتحاد النسائي.
[3] Paulo Freire, Pedagogy of the Oppressed.
[4] Antonio Gramsci, Prison Notebooks.
[5] Fatima Babiker Mahmoud, The African Woman Between Heritage and Modernity.
[6] Karl Marx & Friedrich Engels, The Origin of the Family, Private Property and the State.
[7] Sondra Hale, Gender Politics in Sudan.
[8] Mahmoud Mohamed Taha, The Second Message of Islam.
[9] Audre Lorde, The Master’s Tools Will Never Dismantle the Master’s House.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.