ما بعد شعار «جيش واحد شعب واحد».. تفكيك الأسطورة في ضوء التاريخ السوداني

صفاء الزين

لم يكن شعار «جيش واحد شعب واحد» نتاج لحظة وجدانية عابرة، ولا تعبيرًا بريئًا عن وحدة وطنية كما جرى الترويج له، وإنما جاء بوصفه صياغة أيديولوجية أنتجتها المؤسسة العسكرية ذاتها، بهدف إعادة تعريف الوطن وفق مقاسها الخاص، واستخدامه أداة ابتزاز سياسي وأخلاقي للمجتمع. فمنذ لحظة تداوله استُخدم الشعار كآلية اصطفاف قسري: “من يردده يُمنح صك الوطنية”، ومن يتحفظ عليه يُدفع خارج دائرة الانتماء، ومن ينتقده يُعرَّض للاستباحة الرمزية والمادية التي تصل حد التصفيات.

بهذا المعنى لم يؤدِّ الشعار وظيفة خطاب وحدوي جامع، وإنما تحوّل إلى إعلان ولاء إلزامي، جرى عبره ربط حق المواطنة، بل وحق الحياة، بموقف سياسي محدد. وفي سياق تُقصى فيه الأصوات المخالفة، وتُخوَّن، وتُقمع، يصبح الشعار جزءًا من بنية العنف المنظم، لا مجرد كلمات تُرفع في المواكب والساحات.

لفهم خطورة هذا الشعار، تبرز ضرورة العودة إلى الجذور التاريخية، فالجيش السوداني، منذ تأسيسه في ظل الحكم الاستعماري عام 1925م “قوة دفاع السودان”، لم يُنشأ كقوة وطنية لحماية المجتمع، وإنما كجهاز داخلي لضبط السكان، وقمع التمردات، وتأمين المركز في مواجهة الأطراف، وحفظ مصالح الدول الخارجية على حساب المواطن السوداني، هذه الوظيفة لم تكن حالة استثنائية أو انحرافًا مؤقتًا، وإنما مثّلت جوهر التكوين العسكري نفسه، واستمرت بعد الاستقلال من دون تفكيك حقيقي أو مراجعة جذرية.

انطلاقًا من ذلك يظهر شعار «جيش واحد شعب واحد» في تعارض مباشر مع الواقع التاريخي، فهذه المؤسسة لم تخض، عبر مسيرتها، حروبًا دفاعية لحماية البلاد من تهديد خارجي، وإنما انخرطت بصورة متكررة في حروب إبادة وتطهير داخلية، والسلاح وُجِّه بصورة منهجية إلى صدور السودانيين: في الجنوب، وفي دارفور، وفي جبال النوبة، وفي النيل الأزرق، وفي شوارع المدن عندما خرج الناس مطالبين بحقوقهم الأساسية.

إن الجيش السوداني بوصفه مؤسسة سياسية مسلّحة، ظل الفاعل المركزي في ممارسة العنف ضد المجتمع ومغتصب لسلطة ااشعب، إما بصورة مباشرة، أو عبر تفويضه لقوى وكيانات مختلة تعمل تحت مظلته، ومن ثم فإن الترويج لفكرة تمثيله للشعب لا يتجاوز كونه عملية تزوير للذاكرة الجمعية، ومحاولة لإعادة تلميع سجل مثقل بالدم والانتهاكات.

خطورة هذا الشعار تتجاوز مسألة عدم مطابقته للواقع، وتمتد إلى وظيفته السياسية العميقة، فهو يُستخدم كأداة لإلغاء المساءلة، وتجريم النقد، وقلب المعادلة الأخلاقية بحيث يتحول الضحية إلى متهم، وعندما يُقدَّم الجيش بوصفه تجسيدًا للشعب، يصبح الاعتراض على أفعاله معادلة للاعتراض على الوطن ذاته، وتُصوَّر المطالبة بالعدالة باعتبارها تهديدًا للأمن القومي.

الوعي بتاريخ الجيش السوداني في هذا السياق يمثل فعل مقاومة بحد ذاته، لا تمرينًا فكريًا مجردًا، فمؤسسة تشكّلت لقمع المجتمع، وواصلت أداء هذا الدور عبر أنظمة سياسية مختلفة، لا يمكن إعادة بناء علاقتها بالمجتمع عبر الشعارات أو الاستدعاءات العاطفية، وإنما عبر تفكيك بنيتها ووظيفتها السياسية وإخضاعها لمساءلة تاريخية وقانونية شاملة.

الشعب السوداني كيان متعدّد، حيّ، متنوع، يمتلك حق الاختلاف وحق الحياة وحق مساءلة السلطة، ولا يمكن اختزاله في تابع لمؤسسة مسلحة يدعي قادتها أنهم أوصياء على الشعب، وكل محاولة لفرض تطابق قسري بينه وبين الجيش تعيد إنتاج منطق السيطرة الاستعمارية ذاته، وإن اتخذ هذه المرة وجوهًا محلية وخطابًا وطنيًا زائفًا.

الأزمة السودانية في عمقها، أزمة تاريخ لم يخضع للمحاسبة، وتاريخ مؤسسة بُنيت للحكم أكثر من الحماية، ولممارسة العنف أكثر من الدفاع، ومن دون مواجهة هذا التاريخ بوضوح وشجاعة، سيظل شعار «جيش واحد شعب واحد» أداة للهيمنة والقمع، لا جسرًا للوحدة الوطنية.

السودان في حاجة إلى مساءلة تعيد تعريف الوطنية خارج فوهة البندقية، وإلى عقد جديد يفصل بين الدولة والسلاح، فلا وطن يقوم على إسكات معارضيه، ولا جيش يكتسب صفة الوطنية ما دام حضوره السياسي قائمًا على إخضاع المجتمع بدل صون حياته وكرامته.

[email protected]

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.