أكد الدكتور أحمد العالمي، في درس افتتاحي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، أن سر التعددية الفكرية غير المسبوقة التي ميزت العصر العباسي يكمن في استقلالية المنظومة التعليمية آنذاك عن وصاية الدولة وتمويلها، مشدداً على أن تحرر الفقهاء والعلماء من “أرزاق السلطة” كان الضامن الأساسي لحرية الفكر والإبداع.
وشهدت رحاب جامعة السلطان مولاي سليمان الأربعاء الماضي تنظيم هذا الحدث الأكاديمي الذي دعت إليه شعبة علم الاجتماع، حيث استعرض المحاضر جذور التعليم في الحضارة الإسلامية وأثره في تشكيل العقل الجمعي، وذلك بحضور ثلة من الأساتذة والباحثين والطلبة الذين توافدوا لمناقشة هذه القضية الجدلية وفقاً لما أورده المصدر.
واستند المحاضر في مقاربته التحليلية إلى قاعدة خلدونية مفادها أن الماضي هو الأداة الأنجع لتفكيك شفرات الحاضر، معتبرا أن الحقبة العباسية لم تكن مجرد فترة زمنية عابرة، بل شكلت لحظة التأسيس الفعلي لتدوين العلوم الإسلامية وانطلاق حركة الترجمة الكبرى التي انفتحت على الموروث الإغريقي والروماني دون أن تذوب فيه، بل أسست لنموذج معرفي عربي أصيل ومتنوع.
وأوضح العالمي أن المؤسسة التعليمية العباسية، التي اتخذت من الجوامع مقرات لها، تفوقت على نظيرتها المسيحية في الغرب بكونها مؤسسات مفتوحة للعموم وليست حكراً على طبقة دينية مغلقة داخل الأديرة، مشيراً إلى أن الجوامع مارست أدواراً سياسية واجتماعية ريادية، لكنها نأت بنفسها عن الأدوار الاقتصادية التي تسببت لاحقاً في الانشقاقات الكنسية الغربية.
وفصل المتحدث في البنية الديموغرافية للتعليم العباسي، موضحا أنه قام على مبدأي المساواة والإنصاف، حيث سقطت الفوارق العرقية بين العرب والموالي، وتلاشت الحواجز الطبقية ليكون العلم متاحاً للمعدمين والأغنياء على حد سواء، مستحضراً نموذج القاضي أبي يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة كدليل على صعود الكفاءات من قاع المجتمع إلى قمته بفضل العلم.
وأثار المحاضر نقطة تتعلق بآلية التمويل، حيث بين أن الدولة في الحقبة العباسية الأولى لم تكن تدفع رواتب للعلماء ولم تتدخل في المناهج، بل كان الطالب هو من يختار أستاذه وحلقته العلمية ويدفع تكاليف تعليمه، مما خلق “سوقا حرة للأفكار” منعت السلطة السياسية من فرض إيديولوجيتها على المجتمع العلمي، ورسخت مبدأ الاستحقاق الذي جعل المقاعد الأمامية في الحلقات من نصيب النجباء فقط.
وأرجع الدكتور العالمي أسباب أفول هذه التعددية لاحقاً إلى التحولات التي طرأت مع ظهور المدارس النظامية في العهدين السلجوقي والفاطمي، حين قررت الدول التدخل المباشر في التعليم عبر التمويل ودفع الأرزاق، مما حول المؤسسات التعليمية إلى أدوات لخدمة التوجهات الرسمية وكبح جماح التعددية التي ازدهرت في عصر الاستقلال المالي.
المصدر: العمق المغربي
