يولد الفرح أحيانا في توقيت ملتبس، فيتحول من فسحة منتظرة إلى عبء أخلاقي ثقيل. لحظة يرتفع فيها الهتاف في الساحات، بينما البيوت البعيدة تغرق في صمت كثيف، تتشكل أسئلة لا تهتف ولا تصفق. أسئلة عن المعنى، وعن ذلك الخيط الدقيق الذي يفصل بين الإعتزاز الجماعي وإحترام الواجب لوجع لم يبرد بعد. هنا لا يعود الأمر إحتفالا عابرا، بل إمتحانا صريحا للضمير الجمعي، وقدرته على الموازنة بين نشوة القلب وبصيرة العقل.
مرآة الفرح
الفرح ليس دائما شعورا بريئا، بل مرآة صادقة تعكس وعينا حين نختار كيف نظهره. عندما تنفجر البهجة في زمن الفقد، تتحول إلى إختبار يكشف نضج الجماعة أو هشاشتها. في تلك اللحظات، لا يلغى الفرح، بل يعاد تشكيله؛ ينزع عنه الصخب الزائد، ويكسى بوقار يحفظ للإنسان كرامته. فالتعبير ليس أقل أهمية من الشعور نفسه، بل هو ترجمته الأخلاقية في الفضاء العام.
الواجب والضمير
لا خلاف على حق الناس في الفرح بالنجاح، أيا كان مجاله. لكن هذا الحق يصطدم بواجب غير مكتوب، واجب مراعاة اللحظة العامة. التناقض هنا ظاهري فقط؛ فالفرح لا يلغى حين يهذب، بل يسمو. حين يتراجع الضجيج، تظهر أشكال أصدق للتعبير، ويغدو الصمت مشاركة راقية، لا تقل عمقا عن الكلمات ولا أقل صدقا من الهتاف.
صوت مكتوم
وسط الضوضاء، يبهت صوت أولئك الذين دفعوا الثمن الأعلى. الضحايا لا يملكون منابر، لكن حضورهم الأخلاقي يفرض نفسه دون استئذان. جراحهم المفتوحة لا تطلب منع فرح الآخرين، بل اعترافا هادئا بوجودها. إن رؤية الفرح الصاخب تملأ المشهد العام، بينما الألم لم يجد لغته بعد، تصنع جرحا ثانيا، أعمق وأشد قسوة، جرح التجاهل.
الوطن ككائن حي
الوطن ليس لوحة نتائج، ولا نشيدا يستحضر عند الفوز فقط. الوطن كائن حي، يفرح ويتألم، ويقاس معدنه بقدرته على التعاطف قبل قدرته على التهليل. في أزمنة الكارثة، تتكشف صور أخرى للوطن: وجوه الناس البسطاء، أيديهم الممدودة، وصبرهم الذي يخفف الوجع بصمت. من هذا العمق الإنساني وحده يولد الفرح الحقيقي لاحقا، فرح لا يشبه الهروب، بل يشبه الوفاء.
إعادة ترتيب المشاعر
الإشكال ليس في الإحساس، بل في ترتيبه. الفرح يمكن أن ينتظر، أما الكرامة فلا. إعادة ترتيب الأولويات العاطفية لا تعني قمع الذات، بل حمايتها من التبلد. الفرح المؤجل غالبا ما يكون أعمق، لأنه يمر عبر غربال الألم، فيخرج أقل ضجيجا وأكثر صفاء، محملا بمعنى لا يزول سريعا.
الواجب والضمير
في النهاية، تبقى المسافة بين الهتاف والصمت مساحة إختبار حقيقية. كيف نعبر عن سعادتنا دون أن نكسر قلبا مكسورا؟ متى يكون الإحتفال علامة قوة، ومتى يتحول إلى إنكار للواقع؟ هل نملك شجاعة الإنتظار، أم نكتفي بالضجيج السريع؟ أسئلة لا تطلب أجوبة جاهزة، بل وعيا يقظا يدرك أن الكرامة لا تتجزأ، وأن الذاكرة الجماعية لا تحتمل الرقص فوق ندوبها.
المصدر: العمق المغربي
