أمد/ عندما نمعن النظر في مجمل ما يدور من أحداث على الأرض، نجد أنه وبشكل لافت ومدروس، قد تم صياغة الاتفاق بشكله الفضفاض، ليكون وفق ما تقتضيه المصلحة الصهيوأمريكية، ومدفوعاً بضغط الوسطاء على حماس وفصائل المقاومة لتقبل به حقناً لدماء الشعب الفلسطيني، ومن أجل وقف الإبادة، إلا أنه وعلى العكس تماماً من المأمول منها، تم الترويج للمرحلة الأولى من وقف إطلاق النار في غزة، وكأن الناظر له يجد فيه الخلاص من هول الكارثة، غير أن مفاعيلها على الأرض أدت إلى تعميق الأزمات وتأجيلها بهدف التغلب عليها مع بدء المرحلة الثانية، أو هكذا هو المأمول منها..
🔴 الواقع الميداني وحقيقة صدق النوايا الإسرائيلية:
تتراكم الفجوات، وتزداد الكارثة الإنسانية، ولاتزال آثار الكارثة وواقع الدمار والحصار على حالها، بل ازدادت حدَّتها في ظل الغطاء الوهمي لرعاية هذا الاتفاق، الأمر الذي لم يتغيَّر معه ميزان القوى في الميدان، والواقع الجديد الذي باتت تفرضه اسرائيل على الأرض، رغم الملاحظات والإدانات الواضحة للوسطاء للسياسة الإسرائيلية المتمردة على القانون الدولي. كم كبير من الخروقات الفج للإتفاق، بممارسة سياسة الإغتيالات، وهدم البيوت خلف خط الإنسحاب الأصفر، والقصف المستمر من الطائرات والزوارق البحرية والدبابات لكل ما يتحرك على الأرض، وتحت ذرائع تختلقه إسرائيل لتستمر في هذا النهج على أمل إفشال الإتفاق، أو الهروب من استحقاقات المرحلة الثانية، وجلُّها بذريعة جثث القتلى اليهود المتبقية، وضرورة سحب سلاح حماس، وتعديل خرائط الانسحاب المنصوص عليها، إلا أن ذلك كله يواجه بصمت أمريكي فاضح يتعارض مع كونها الراعي المركزي للإتفاق..
🔴 حماس، وسياسة الاسفنج لامتصاص آثار الخروقات:
ربما نقرأ في المشهد أنّ حماس خرجت من المعركة بمكاسب سياسية وتنظيمية أعادت رسم مكانتها كطرف مركزي في أي مفاوضات حالية أو مستقبلية، إلا أن هناك حقيقة غائبة، وهي أن الشعب الفلسطيني بغزة لا زال يواجه المزيد من الألم الذي لا يفارق حاضره خاصة أننا في فصل الشتاء، ويعاني الكثير من النازحين في مخيمات النزوح من غرق خيامهم ودمار معظمها، وتلف أغطيتهم وملابسهم، والكثير منهم لا يجد مأوى آخر أكثر أمناً من سابقه، هذا إلى جانب إعاقة ومنع إدخال مواد البناء ولو بالحد الأدنى، أو خيام ذات جودة مناسبة لفصل الشتاء، أو إدخال معدات ثقيلة تعمل على تسوية البنية التحتية لهذه المخيمات تقيها من كارثة الغرق المستمرة، ورغم أن حماس تتقدم كل لحظة بشكاوي ومناشدات للوسطاء للجم إسرائيل ووقف خروقاتها، إلا أنها في ذات الوقت لا زالت تعاني من اغتيال كوادرها وعناصرها من قبل مخابرات وجيش الكيان الإسرائيلي، ولا يوجد أدنى استجابة تذكر، والخيارات المطروحة أمام حماس وفصائل المقاومة إزاء هذا النهج صعبة وخطيرة، فالرد أو المواجهة سيفشل الإتفاق، وتعود الإبادة والدمار من جديد، والصمت وامتصاص تلك الأحداث يرفع من سقف التوترات ويزيد من التغوُّل الإسرائيلي لممارسة سياساته المعهودة في نقض الاتفاقات أو التهرُّب منها ، ما يجعل من تقييم المرحلة الأولى ضرورة وأولوية قصوى لفهم ما ينتظر قطاع من تبعات في المرحلة الثانية. قدرة حماس على إدارة ملف الأسرى باحتراف سياسي، شكَّل أولى الاشارات البارزة لانتزاع اعتراف دولي بدورها ومكانتها بما لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات سياسية أو أمنية مقبلة.. وبالتالي شكَّل صمودها العسكري والتنظيمي رغم القصف المكثف رافعة عزّزت من مكانتها داخل المجتمع والمكوِّن الفلسطيني ككل، هذا إلى جانب تحليلات وقراءات الحسابات الإقليمية. ومع كل ذلك ظَّلت بعض المكاسب السياسية التي حققتها حماس من الاتفاق، ذات طابع تكتيكي مرحلي، ولم يتجاوز إلى المستوى الإستراتيجي، ولم ترقى لمستوى حماية المدنيين في قطاع غزة، أو تخفيف آثار الكارثة اليومية التي يعيشها السكان هناك..
🔴 الدور الأمريكي الضامن وسياسة غض الطرف:
في المقابل، هناك استهجان وامتعاظ في الأوساط الإقليمية والدولية من جملة السياسات الإسرائيلية وخاصة بين الوسطاء، ومن عدم إظهار الولايات المتحدة أي استعداد لتحويل موقعها كوسيط نزيه إلى أداة ضغط فعلية على حكومة الكيان الإسرائيلي. ورغم البروبوجاندا الإعلامية الزائفة في إظهار الخطاب الأميركي كطرف محايد، إلا أن الذي يحدث على الأرض بعيد كل البعد عن النزاهة بضرورة التهدئة، بل هو أقرب إلى المجاملة السياسية منه إلى دور الوسيط المركزي الضامن للإتفاق..
فلم تستطيع الإدارة الأمريكية حتى اللحظة أن تلزم الحكومة الاسرائيلية بفتح المعابر أو احترام بنود الاتفاق، ولم تُوقف القصف أو الاجتياحات المتكررة وسياسة هدم البيوت والمنشآت، بل اكتفت ببيانات دبلوماسية محدودة التأثير، ومنزوعة الدسم السياسي، هذا إلى جانب ضآلة حجم المساعدات التي أعلنت عنها فكانت متواضعة، ومنع دخول الدواء ومستلزمات المستشفيات يزيد من حجم الكارثة، وآلاف المصابين والمرضى ينتظرون فتح المعابر للعلاج في الخارج لشح الإمكانيات في القطاع، وتبقى المساعدات الضئيلة غير قادرة على تخفيف حجم الأزمة الإنسانية التي تزداد عمقاً كل يوم..
🔴 قراءة وتقييم للمرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة:
قدَّمت المرحلة الأولى نموذجاً واضحاً بل وفاضحاً لكيفية استغلال حكومة الكيان الإسرائيلي للمرحلة الأولى للهدنة كغطاء أمني وسياسي لإعادة التموضع والتمدُّد الجغرافي المتكرِّر، وتنفيذ أهداف ميدانية إضافية تخدم سياستها..
الواقع الميداني والشواهد على الأرض، تشي بحجم الكارثة، فلم تتوقف الهجمات العسكرية على الأحياء السكنية، أو مخيمات النزوح، أو المستشفيات، ولم يسمح بعد برفع سقف تدفق المساعدات إلا بنسب ضئيلة لا تكفي حاجات آلاف الأسر. بل إن جملة القيود اليومية على إدخال الغذاء والدواء ومواد البناء اللازمة لترميم بعض البيوت أو المنشآت الحيوية ازدادت تعقيداً، كم استُخدمت الهدنة أيضاً لترتيب قوات الجيش الإسرائيلي خططاً جديدة استعداداً لجولة جديدة من العمليات في حال فشلت الجهود للانتقال للمرحلة الثانية..
إذاً في المحصِّلة لم يحصل الفلسطينيون على أي امتياز فعلي مما نصَّ عليه الاتفاق: ” لا وقف إطلاق نار مستقر، ولا تسهيلات إنسانية، ولا ضمانات أمنية. وفي المقابل، تمكَّن جيش الكيان الإسرائيلي من توسيع هامش حركته تحت غطاء أمريكي وقانوني هش.”
🔴 استشراف المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة:
للأسف، هذا الفشل السياسي والأمني المركَّب، يجعل من التحضير للمرحلة الثانية أمراً محاطاً بمخاوف جدية..
الخلل واضح ومركَّب: الاحتلال يواصل عملياته بلا رادع، الولايات المتحدة تكتفي بالتصريحات، والمجتمع الدولي يتراجع أمام مسؤوليته القانونية والإنسانية، ولم يتم فرض آليات رقابة فعلية، وعليه فإن المرحلة الثانية قد تتحول إلى نسخة أكثر قسوة من سابقتها الأولى، الأمر الذي قد يسمح بأن تُستخدم فيها الهدنة كغطاء جديد يسمح بعمليات عسكرية نوعية تحت مظلة سياسية أمريكية ودولية فضفاضة..
من جهتها حماس والفصائل الفلسطينية أشارت بوضوح إلى أن الجولة المقبلة لن تُقبل بالشروط السابقة، وتطالب بضمانات دولية ملزمة، وإشراف نزيه ورقابة حقيقية، ووقف شامل للعدوان، قبل الحديث عن أي تقدُّم سياسي أو إنساني.. وتبقى المشكلة الأعمق في غياب إرادة دولية حقيقية قادرة على فرض تلك الضمانات، إلى جانب تراجع دور الأمم المتحدة والبقاء في مقاعد المتفرجين أمام خشبة المسرح السياسي، كما وتحوَّلت منظمات الإغاثة الدولية إلى مؤسسات تعمل ضمن هامش تحدده قوات الكيان الإسرائيلي، في الوقت الذي انشغلت فيه القوى الإقليمية بحساباتها الخاصة، تاركة غزة وحدها في مواجهة الكارثة الإنسانية المتواصلة..
وبالتالي، يصبح النقاش حول المرحلة المقبلة، والتنبؤ بمجرياتها مرهوناً بإعادة تقييم جذرية لكل لما سبق، وبصياغة آليات واضحة تُلزم الاحتلال، بل وتمنع تكرار استغلاله لنصوص الاتفاقات وصياغتها الفضفاضة ضد الفلسطينيين..
🟩🔚الخاتمـــة:
عندما نقرأ مجمل الأحداث والسيناريوهات المتوقعة، ونحلل أحداث السيناريوهات التي حدثت، ونرى فجاجة التعامل الإسرائيلي مع مضامين الإتفاق، وإمعانه في نقض ما تم الإتفاق عليه، ومواصلة أخذ زمام المبادرة بتنفيذ عمليات عسكرية ، وتنفيذ عمليات اغتيالات لقادة حماس، ومواصلة انتهاك خط وقف إطلاق النار وتجاوزه مرات عديدة، ويعتبر أن ذلك من حقه، ويحرِّم على الفلسطينيين الدفاع عن النفس، ويعتبر دفاعهم خرقاً للإتفاق، ما يجعل من ذلك وفق القراءة الدولية ممارسة الكيل بمكيالين، بل هو نوع من العوَر السياسي، وبالتأكيد إذا لم يؤُخذ ذلك في الحسبان، ستبقى الهدنة بمثابة محطة انتظار سياسية شبه مؤقتة، تستغل إسرائيل مفاعيلها في مسار عدواني واسع النطاق، وسيبقى الجانب الفلسطيني هو الخاسر الأكبر في مجمل الاتفاقات وصيغاتها الهشَّة التي لا تحميهم، بل ولا تحترم أبسط حقوقهم الإنسانية، أو أبسط مقوِّمات الحياة الآدمية.
وقطعاً، لا نستطيع الحكم أو التنبؤ بما سيحدث في المرحلة المقبلة “الثانية” من الاتفاق، إذا ما نجحت الأطراف في الإنتقال إليها..
ننتظر ونرى ما سيحدث، ولكل حادثٍ حدي
