أمد/ في غزة، لا يكون المطر حدثًا طبيعيًا عابرًا، بل اختبارًا قاسيًا لمنظومة دولية فشلت في حماية المدنيين. فالخيام التي غرقت مع أول منخفض جوي لم تُغرقها الأمطار وحدها، بل سلسلة طويلة من القرارات السياسية الخاطئة، والتواطؤ الدولي، والعجز المؤسسي الذي حوّل الإغاثة إلى إدارة للألم لا أكثر.
منذ أسابيع، تُعلن الجهات المعنية عن إدخال عشرات، بل مئات الخيام والشوادر إلى قطاع غزة، وتُقدَّم هذه الأرقام كدليل على الاستجابة الإنسانية. لكن الواقع الميداني يكشف فجوة هائلة بين الخطاب والحقيقة: خيام غير مهيأة لفصل الشتاء، مخيمات أُنشئت بلا بنية تصريف للمياه، وأطفال ينامون في الوحل. ومع كل عاصفة، يُهجَّر آلاف النازحين مجددًا، وكأن النزوح بات حالة دائمة لا استثناء مؤقتًا.
السؤال هنا ليس تقنيًا، بل سياسي بامتياز: من يقرر شكل ومكان توزيع الإيواء؟ وعلى أي أسس؟ ولماذا تُترك مناطق واسعة من غزة، بما فيها الشمال وخانيونس والمنطقة الوسطى، بلا الحد الأدنى من الحماية؟ هذا الغموض لا يمكن تفسيره بنقص الموارد فقط، بل يعكس خللًا بنيويًا في إدارة المساعدات وغيابًا حقيقيًا للمساءلة.
تتحمل إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، المسؤولية القانونية والأخلاقية الأولى عن هذه الكارثة. فقد دمّرت المنازل والبنية التحتية، وفرضت حصارًا خانقًا، ومنعت إدخال مواد الإيواء المناسبة. وعندما يُحظر الإسمنت، وتُقيَّد المواد العازلة، وتُصنَّف مستلزمات الطوارئ على أنها «مزدوجة الاستخدام»، يصبح البرد جزءًا من آلة الحرب، ويغدو المطر سلاحًا صامتًا يواصل ما بدأته القنابل.
لكن الاكتفاء بإدانة الاحتلال لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤوليته. فالدول المؤثرة، والمؤسسات الأممية، والجهات المانحة، تدرك تمامًا أن الخيام المهترئة ليست حلًا شتويًا، وأن المخيمات العشوائية وصفة مؤكدة لكوارث متكررة. ومع ذلك، يستمر تمويل حلول مؤقتة وفاشلة، لأنها الأقل كلفة سياسيًا، والأكثر انسجامًا مع منطق «احتواء الأزمة» بدل العمل الجاد على إنهائها.
الأخطر أن هذه الإخفاقات تُغلَّف بخطاب إنساني مُنمّق. تُلتقط الصور، وتُكتب التقارير، وتُعلن الأرقام، بينما يُترك الإنسان في غزة يواجه المطر ببطانية وخيمة مثقوبة. هكذا تتحول الإغاثة من واجب أخلاقي إلى واجهة إعلامية تُخفي العجز السياسي.
غزة لا تطلب امتيازات خاصة، بل حقوقًا أساسية كفلها القانون الدولي: مأوى آمن، وحماية للمدنيين، وفتح المعابر لإدخال ما يلزم للبقاء. وما لم يُستبدل منطق «إدارة المعاناة» بمنطق المساءلة والحماية الفعلية، فإن كل شتاء قادم سيبقى شاهدًا جديدًا على انهيار الضمير الدولي.
في أماكن أخرى من العالم، تُعدّ الأمطار الغزيرة كارثة طبيعية تستوجب استجابة فورية وبنية حماية متكاملة. أما في غزة، فتُعامل بوصفها تفصيلًا هامشيًا في حرب مستمرة على الحياة نفسها. وهنا، لا يعود السؤال عن الطقس، بل عن النظام الدولي الذي يسمح بتحويل المطر إلى أداة قتل صامتة.
