أمد/ إن لثورة التکنولوجيا وانتشارها السريع في العالم في هذا القرن والمتمثلة في تطور وسائل الاتصالات و شبکة الإنترنت و القنوات الفضائية تأثيرا في التواصل بين شعوب دول العالم وإلى تحول العالم إلى قرية کونية صغيرة تربطها شبکة اتصالات واحدة عبر الأقمار الصناعية،لقد تنامت قوة الإعلام الفضائي،وزادت المنافسة بين القنوات الفضائية على استقطاب الشباب،من خلال ما تبثه من برامج علمية واجتماعية وترفيهية وأيديولوجيات متعددة موجهة إلى المجتمعات بجميع شرائحه وخاصة الشباب بمختلف مراحله العمرية.
وقد تحولت القنوات الفضائية إلى أداة للتأثير على الشباب مُشکِلة لشخصياتهم وسلوکهم الاجتماعي،فقد أصبحت القنوات الفضائية ذات أهميه بالغة الأثر ليس على الصعيد الإعلامي فحسب،وإنما على جميع الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية،تستهدف جميع شرائح المجتمع وأطيافه دون استثناء،فهي تعمل بطريقه أو بأخرى في التأثير والتغيير خاصة على الشباب سلبا أو إيجابا،وقد تحولت الأطباق الفضائية إلى ظاهرة اجتماعية عامة مما دفع بالعديد من الباحثين في مجال علم الاجتماع والإعلام إلى دراستها کظاهرة لها أثارها الاجتماعية والثقافية،وتتبع هذه الآثار في أنماط تفکير وسلوک الشباب،ودراسة طبيعة التأثير الاجتماعي والتوجيهي الذي تلعبه القنوات الفضائية في التأثير على قيم الشباب وسلوکياته و مظهرهم الخارجي ومستواهم الدراسي وتوافقهم الأسري الاجتماعي..
والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع :
هل أصبحنا نرى الآن،طغيانالآخرعلى الذات وتحكّمه في وعي الذات ووجدانها دون أن تُطرَف لنا عين!؟ وهل غدونا نذوب دون وعي منا في المفاهيم الثقافية الأمريكية التي لا تستسيغ وجود تنوّع ثقافي بين البشر بقدر ما تسعى إلى العودة بثراء الثقافات والحضارات إلى فقر النمط الواحد المفروض قسرا..!؟
كيف يمكن مسايرة نسق التطوّر التكنولوجي في مجال الإتصال دون الوقوع تحت سيطرته وتأثيره،خصوصا بعد أن أصبح سعراللواقط الفضائيةفي متناول الجميع،حيث بالإمكان إستقبال كم هائل من المحطات الفضائية،لا تنافس القناة المحلية فحسب،بل تؤثّر في خلق الصّور النمطية وتعزيزها مما يشكّل تهديدات أساسية للثقافة العربية !؟..
هل بإمكان أي دولة،ومهما حاولت،الوقوف أمام موجات المعلومات المتدفقة من هنا وهناك،في ظل هذه الثورة التفنية المذهلة..!؟ فلماذا إذا،مازلنا نعيش بعض القيود المفروضة على الصحافة العربية ونعاني من فرض الوصاية على الإعلام العربي عموما؟!
ألم تتكاثربعد حرب الخليجالفضائيات التلفزيونية التي تدعمها أموال النفط لشراء التقنيات وتوطينها في بعض العواصم الغربية: لندن..باريس..مما حدا ببعض الدول في منطقة الخليج مثلا،إلى العيش حتى بغير جيش عتيد،أو دون نظام إقتصادي له معالمه الواضحة،ولكنّها في المقابل تغدق الأموال الضخمة في سبيل التباهي بمحطة فضائية تستثمر “أجمل نساء العرب” وأكثر”المثقفين وهجا وإلتماعا..! فهل تمكّنت هذه المحطات من الإرتقاء بالخطاب الإعلامي العربي إلى مرتبة التحديات التي أملاها الراهن الإعلامي الكوني،أم أنّها كرّست الرداءة والإلهاء النفسي من خلال “الإستعراضات الغنائية والفوازير..”
وإزدواجية الخطاب الثقافي؟!
إنّنا نتساءل في ضوء هذا الواقع التلفزيوني العالمي الجديد،وحيث لم تعد الصورة بريئة بعد أن أغرقتها التقنيات الحديثة في عالم التوظيف السياسي،عن أدوار وتموقعات هذه الفضائيات العربية عامة والنفطية خاصة وعن مدى قدرتها على إرساء أرضية وفاق وحوار واستقرار تحمي أجيال المستقبل من مداهمات الثقافة المعولمة واختراقاتها بما يؤسّس لهويتنا العربية المستقلة.. ففي ظل هذا التطوّر التقني والتكنولوجي حيث الصّورة المتميّزة حد الإبهار،لم تعد قضية إمكانيات مادية وكفاءات فكرية وأدبية فحسب،وإنما بالأساس قضية وعي وطني قادر على لعب دور في التحديث والتضامن قصد تحقيق عناصر قوّة الشخصية الوطنية لمواجهة رياح الشمالفالصورة العربية ما فتئت تتعرّض لتجريح ينال من كمال شخصيتنا التراثية والمعاصرة،وقد تمكّنت وسائل الإتصال الغربية من تكريسها،من خلال ما تنتجه من برامج ومسلسلات تباع وتبث في أرجاء المعمورة،وتبعا لذلك بدأت صورة العربي نمطية وفقا لإبتداع الغرب إلى حد أننا إنتهينا بالإعتقاد بأنّها صورتنا،وعجزت وسائل الإتصال العربية على الرد بالمثل،لتنشر صورة للغرب بهذه السمات، فظلّت الهيمنة الغربية تشوّه صورتنا دون كلل أو ملل..
إنّ الغرب بقدر ما ساهم في تكريس هذه الصورة السلبية للعربي،بقدر ما كان لبعض العرب الدّور الخفي في تكريسها من خلال إنتاج أفلام ومواد إعلامية تسيء لنا،فلأثرياء النّفط من العرب محطّات فضائية ووسائل إعلام متعدّدة توكّد هذه الصّورة السلبية وتدعمها،فلم يعد الإعلام لهذه الأقطار مجرد “وسائل”للتنمية الإجتماعية والإقتصادية بقدر ما أصبحتوسائلهمقصودة لذاتها،بوصفهارموزاللتحضّر المرغوب وعلامات المكانة والإجلال..!
إنّ سوء إستخدام وسائل الإعلام عامة يؤدّي بالضرورة إلى غياب المنافسة الحرّة حول الجودة والكيف،كما أنّه يسبّب في حالات أخرى،في تخريب العلاقات بين الأقطار العربية وإثارة النعرات العرقية والصراعات الإجتماعية داخل هذا القطر العربي أو ذاك،من خلال نشر الأكاذيب وأنصاف الحقائق بدلا من الإنصياع للأمانة المهنية ونشر الصحيح..
سأصارح :
خلق الحَراكُ العربيّ الذي انطلق سنة 2011 جدلا سياسيّا تجاوز حدود الدول التي حصل فيها، وحدودَ المجال السياسيّ (بالمعنى المباشر) إلى المجالات الاجتماعيّة والثقافية والإعلامية.وضمن الحقل الإعلامي،تغيّرت خريطة الإعلام الكلاسيكيّ إلى حدّ ما،وبرزت أنماط جديدة في قراءة هذا الحراك وتبعاته.وبالتوازي مع ذلك،احتلت وسائل التواصل الاجتماعيّ مساحةً واسعةً من الاهتمام، بعد أن باتت وسيطا إعلاميّا وميدانا للتعبير وإعلان المواقف والاحتجاج،بحيث شهدْنا سيلا من النقاشات والمواقف اليوميّة عبرها.
هذا كلُّه جعل من الإعلام،والإعلامِ الجديد، موضوعًا حيويا مستجدا للدراسة والتحليل، ولمحاولة فهم آثاره في المجتمع والسياسة،وهي آثارٌ تجاوزت بكثيرٍ حدود ما كان عليه الأمر خلال عقود مضت.فالجمهور لم يعد مجرّد متلق للمحتوى الإعلامي،وإنّما امتلك أيضا دور صياغته ونشرِه وفرضِه على الأجندة العامّة.ومن ثمّ نشأتْ علاقة جديدة،شائكة ومعقدة،بين الإعلام والإعلام الجديد والجمهور،لا سيادة فيها لطرفٍ على آخر، ولا يمكن حصرُها ضمن ثنائيّة السلبيّات والإيجابيّات.
هكذا لجأ قطاع مهيمن من الإعلام،وبوعي مسبَّق، إلى اعتمادِ ما يكتبه أو يسجّله المواطنون في وسائل التواصل الاجتماعيّ وكأنّه “مادّة إعلاميّة،”من دون محاولة التحقق من دقته! وقد ساهم ظهور موجة جديدة من الوسائل الإعلاميّة المكتوبة والإلكترونيّة والتلفزيونيّة بعد العام 2011،واعتماد عدد لامحدود من “اء” و”المحلّلين” و”الناشطين،”في إغراق السوق بقراءات لانهائيّة للحدث والواقع السياسيّ.لم يعد هنالك معنى،أو معايير،لما يسمّى،في لغة الإعلام، بـ”قادة رأي.” أصبح كلّ من يتطوّع للتعبير عن وجهة نظر الوسيلة الإعلاميّة جديرا بأن يُمنح هذه الصفةَ ويُعطى هذا الدور.وقد أسهم المقابل المادّيّ الذي يتلقاه أولئك “المتطوّعون” في تكاثرهم إلى حدّ التخمة.وكأنّ هدف الإعلام لم يعد شرح الواقع وتحليله،بقدر ما بات تعويم هذا الواقع وتذريره.
وفي المقابل، بات كلّ مواطن جزءا من عملية التعويم والتذرير هذه،بقصد أو من دون قصد. فبالتوازي مع وسائل الإعلام الكلاسيكيّة، وبالتداخل والتشابك معها،تدفّق سيل لانهائيّ من الصور والفيديوهات،والأخبار والمعلومات،عبر وسائل التواصل الاجتماعي،التي يصعب دائما التحقّق منها ومن دقّتها.وهنالك “صفحاتٌ وهميّة” على الفيسبوك،على سبيل المثال،يتمّ إنشاؤها لتكون جزءا من هذه العمليّة.لم تعد هنالك مصادرُ واضحة لما يمكن أن يكون “مادة إعلامية.” وهذا بدوره أوجد أيضا سيلانا لامتناهيا من القضايا التي تظهر وتُناقَش وتَشْغل الناس لفترة محدودة، ثمّ تموت،لتظهر مكانها قضايا جديدة.وبات كلّ قول،لكلّ فرد في هذا الفضاء،رأيا يمكن أن يناقَش، بغضّ النظر عن استناد ذلك الرأي إلى أي معلومة صحيحة،وبصرف النظر عن منطلقات هذا النقاش أو “عقلانيّته.”
هكذا جرى “تذويتُ” القضايا،وتذويت الآراء والمواقف.بمعنًى آخر: أصبحت الحقائق فرديّة. وهذا أوجد حالة من اللايقين.وربّما هذا كلّه أوجد أيضا ظاهرة مفادُها أنّ الفرد بات يبحث عن الوسيلة الإعلاميّة وصفحات التواصل الاجتماعيّ التي تُسمِعه ما يريد وما يؤمن به،لا ما قد يوصله إلى الحقيقة أو إلى ما هو منها قريب..وهو سلوك يُفترض أنّه يتعارض مع زمن “تحرّر المعلومة.”
وهنا أقول :
في ظل التدفق الإخباري الهائلكما أشرتوتعدد مصادر المعلومات بفضل التكنولوجيات الحديثة لوسائل الإعلام والاتصال،ابتعدت بالمقابل القنوات التلفزيونية الإخبارية على الخصوص عن دورها الرئيسي المتمثل في إعلام الرأي العام بموضوعية ومهنية،بل وتجردت من الأمانة في نقل الأحداث والوقائع كما هي دون تزوير أو تحريف،وساهمت في تحويلها إلى مواجهات سياسية إيديولوجية وتوترات عرقية وطائفية،نتيجة التلاعب والتجاذبات الدولية التي تستند إلى ممارسات إعلامية بعيدة كليا عن أية موضوعية،وتوسعت هذه الأحداث إلى أن أصبحت أزمات إقليمية ودولية وهو ما حوّل المعالجة الإعلامية لها إلى حملات إعلامية خاضعة لحسابات المصالح وتقسيم مناطق النفوذ وأحيانا لتصفية حسابات شخصية بين قادة هذه الدول،دفعت ثمنها الشعوب ودمرت على إثرها مقدرات الأوطان،فقد تحولت المعالجة الإخبارية التلفزيونية إلى حروب إعلامية حقيقية،ساهمت بفعالية في تفاقم هذه الأزمات من خلال التحريض على الكراهية والمواجهات المذهبية،فإن كان تقسيم الاستعمار القديم للأوطان قد اعتمد على الخرائط والحدود وتدخلات الجيوش،فإن التقسيمات اليوم ترتكز على استغلال الاختلافات المذهبية والطائفية والتنوع الثقافي،وكل ذلك باستخدام أدوات القوة الناعمة التي تشكل فيها وسائل الإعلام والاتصال أهم الركائز وتمثل فيها المبادئ السامية كحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير،الشعارات الأساسية التي تخفي النوايا والمصالح الحقيقية..
وهنا أضيف : إن التداخل بين المهنية الإعلامية والولاء السياسي يمثل تحديا كبيرا في المشهد الإعلامي العربي بينما تُظهر بعض القنوات التزاما واضحًا بالمهنية،تتأثر أخرى بأجندات سياسية تضعف ثقة الجمهور بمصداقيتها،هذا التداخل يجعل من الصعب على المشاهد التمييز بين الإعلام المستقل والإعلام الموجه مما يضعه أمام مسؤولية أكبر في البحث عن الحقيقة..!
ورغم التحديات يوفر التعدد الإعلامي للجمهور فرصة ذهبية للحصول على روايات متعددة للأحداث ما يتيح له تكوين رؤية أوسع وأكثر شمولية،لكن هذا التعدد يفرض أيضا على المشاهد تطوير وعي نقدي يساعده على التمييز بين المحتوى المهني والمحتوى المُوجه والبحث عن مصادر أكثر حيادية وموثوقية..
إن تعدد القنوات الفضائية الإخبارية العربية يمثل ظاهرة تحمل أبعادا متناقضة فهو يعكس من جهة حراكا إعلاميا إيجابيا يسعى لإثراء الساحة الإعلامية،لكنه من جهة أخرى قد يتحول إلى أداة تخدم أجندات سياسية ضيقة..التحدي الأكبر أمام الإعلام العربي اليومفي تقديريهو تحقيق توازن بين المهنية وتعزيز حضور الدول بحيث لا تُهمش مصلحة الجمهور لصالح المصالح السياسية،
فالإعلام المهني المستقل هو القادر على خدمة الشعوب ودعم قضاياها،أما الإعلام الموجه فلن يكون سوى انعكاس لمصالح مؤقتة لا تُساهم في بناء وعي أو نهضة.
في النهاية يبقى السؤال مفتوحًا هل سيستمر الإعلام العربي في هذا التداخل بين المهنية والسياسة،أم سيشهد تحولا نحو صناعة إعلامية ناضجة تخدم الحقيقة والجمهور على حد سواء ؟
على سبيل الخاتمة :
إن العرب مدعوون إلى مزيد الأخذ بأسباب التكنولوجيا واعتماد سياسة إعلامية عربية تضمن التعددية وحرية وصول المعلومة للمتلقي عبر وسائل متحررة ومستنيرة تعكس بدورها هذا التطلع الإيجابي،وتستفيد أيضا من هذا التطور التكنولوجي في تنويع وسائطها وتعميق رسالتها وتوسيع شبكة اتصالها،إلا أن ذلك لابد أن يرافقه تغيير في السياسات الإعلامية العربية الرسمية كي تتواءم بفعالية مع التغييرات الكبرى التي يشهدها العصر وتتوافق مع ما يعد به المستقبل من صحوة عربيةتتبلور عبرها التنمية بكل أبعادها،في هذا الوطن العربي الفسيح..
