لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية أو عدالة اجتماعية دون معالجة الاختلالات المجالية التي راكمها الزمن، والتي ما تزال تفصل بين المغرب النافع والمغرب المنسي. فبينما شهدت المدن الكبرى توسعاً عمرانياً واستثمارات متواصلة في البنيات التحتية والخدمات، ظل العالم القروي والمناطق الجبلية يعاني من الهشاشة، وضعف التجهيزات، وغياب فرص العيش الكريم.
من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى مقاربة جديدة في توزيع الثروة الوطنية، تقوم على التمييز الإيجابي لفائدة المناطق الأقل حظاً، عبر توجيه جزء أكبر من عائدات الدولة نحوها، بما يحقق العدالة الاجتماعية والمجالية ويؤسس لتنمية متوازنة ومستدامة.
أولاً: العدالة لا تعني المساواة الحسابية
إن العدالة المجالية لا تعني توزيع الموارد بالتساوي بين جميع المناطق، بل تعني توزيعها حسب الحاجيات والفوارق القائمة. فالمناطق التي راكمت الخصاص لعقود تحتاج إلى استثمارات أكبر وبوتيرة أسرع لتعويض ما فاتها من فرص التنمية.
ومن هذا المنطلق، فإن تخصيص 65٪ من أرباح الدولة وعائداتها لفائدة العالم القروي والمناطق الجبلية ليس امتيازاً، بل هو إجراء إنصافي، يهدف إلى تصحيح اختلالات تاريخية وليس خلق اختلالات جديدة.
ثانياً: لماذا العالم القروي والمناطق الجبلية؟
تشكل هذه المناطق:
خزّاناً بشرياً مهماً تعيش فيه نسبة كبيرة من المواطنين؛
مجالاً استراتيجياً للأمن الغذائي، والموارد الطبيعية، والتوازن البيئي؛
مصدراً للهجرة القروية نحو المدن، وما يرافقها من ضغط اجتماعي واقتصادي؛
فضاءً يعاني من ضعف البنيات الأساسية (طرق، صحة، تعليم، ماء، كهرباء، تغطية رقمية).
إن الاستثمار المكثف في هذه المجالات سيُحوّل العالم القروي من مجال طارد للسكان إلى مجال جاذب، ومن عبء على السياسات العمومية إلى رافعة للتنمية الوطنية.
ثالثاً: توجيه 65٪ من العائدات… كيف ولماذا؟
تخصيص نسبة 65٪ من عائدات الدولة لفائدة المناطق القروية والجبلية يمكن أن يشكل قفزة نوعية إذا تم توجيهه بشكل ذكي وشفاف، من خلال:
فك العزلة عبر تعميم الطرق القروية والمسالك الجبلية؛
تحسين العرض الصحي والتعليمي وتقريب الخدمات الأساسية من المواطن؛
دعم الفلاحة التضامنية، وتثمين المنتوجات المحلية؛
تشجيع الاستثمار القروي والسياحة الجبلية والبيئية؛
توفير فرص الشغل للشباب للحد من الهجرة نحو المدن.
أما الـ35٪ المتبقية، فتبقى كافية لمواصلة تأهيل المدن وتحسين جودة العيش بها، خاصة وأن المدن استفادت تاريخياً من الجزء الأكبر من الاستثمارات العمومية.
رابعاً: أثر هذه السياسة على المدن نفسها
قد يُعتقد خطأً أن توجيه الجزء الأكبر من الموارد نحو القرى سيكون على حساب المدن، غير أن الواقع يُثبت العكس.
فتنمية العالم القروي ستؤدي إلى:
تخفيف الضغط الديمغرافي والاجتماعي عن المدن؛
الحد من انتشار السكن غير اللائق وأحياء الهامش؛
تقليص معدلات البطالة والهشاشة الحضرية؛
خلق توازن اقتصادي واجتماعي بين المجالين القروي والحضري.
وبالتالي، فإن العدالة المجالية تخدم الجميع، ولا تُقصي أحداً.
خامساً: توصيات عملية لإنجاح هذا التوجه
لضمان نجاعة هذا المقترح، يُستحسن اعتماد جملة من التوصيات، من بينها:
1. إقرار إطار قانوني واضح يحدد نسب التوزيع المجالي للموارد العمومية.
2. ربط التمويل بنتائج ملموسة ومؤشرات واضحة للتنمية.
3. تعزيز دور الجهات والجماعات القروية في تحديد الأولويات وتنفيذ المشاريع.
4. محاربة الهدر والفساد لضمان وصول الموارد إلى مستحقيها.
5. إشراك الساكنة المحلية والمجتمع المدني في التتبع والتقييم.
6. اعتماد التمييز الإيجابي كخيار استراتيجي وليس كحل ظرفي.
إن تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية في المغرب لم يعد ترفاً فكرياً ولا شعاراً سياسياً، بل ضرورة وطنية لضمان الاستقرار، والإنصاف، والتنمية الشاملة.
وتوجيه 65٪ من عائدات الدولة نحو العالم القروي والمناطق الجبلية هو اقتراح جريء، لكنه واقعي، يعكس إرادة حقيقية في بناء مغرب متوازن، لا يترك جزءاً من أبنائه في الهامش، ولا يجعل الجغرافيا قدراً يحدد مصير الإنسان.
فالعدالة المجالية هي الطريق الأقصر نحو مغرب قوي، متضامن، ومتقدم.
المصدر: العمق المغربي
