كشف تحليل جديد للخبير في الدراسات الجيوإستراتيجية والأمنية الشرقاوي الروداني عن تحول جذري في نظرة الولايات المتحدة تجاه القارة الإفريقية، مؤكدًا أن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025 تضع إفريقيا في صميم الأفق الإستراتيجي العالمي، مُبتعدةً عن اعتبارها مجرد “حدود هامشية”.

الدراسة التي نُشرت على منصة “Geopolitical Monitor” تحت عنوان: “إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي: إفريقيا تظهر كلاعب عالمي”، تُشير إلى أن واشنطن أعادت تحديد أولوياتها الإستراتيجية، إذ وضعت التنافس الجيواقتصادي في المرتبة الأولى، مُدركةً أن القدرة على تشكيل سلاسل القيمة، والمعايير التكنولوجية، وممرات البنية التحتية، تحمل تبعات أطول أمدًا من توازن القوى العسكري التقليدي.

ويُسلط الروداني الضوء على أن الأهمية المتزايدة لإفريقيا تنبع من حقائق هيكلية لا يمكن تجاهلها، أبرزها الدور المحوري للقارة في توفير المعادن الحيوية للاقتصاد العالمي، ساردا عددا من الأمثلة في هذا الصدد، من قبيل كون جمهورية الكونغو الديمقراطية تساهم بنحو 70% من الإنتاج العالمي من الكوبالت، وكذا امتلاك غينيا أكبر احتياطيات معروفة من البوكسيت، وتوفر موزمبيق وتنزانيا على موارد كبيرة من الجرافيت، بينما تُمثل احتياطيات إفريقيا من المنغنيز أكثر من 40% من الاحتياطيات العالمية.

وقال المحلل ذاته إن هذه الأهمية المادية تتعزز مع ما تسمى “الجغرافيا السياسية القائمة على الممرات”، مشيرا إلى أن القارة تشهد إعادة تشكيل غير مسبوقة لبنيتها الاتصالية عبر موانئ عميقة (من طنجة المتوسط إلى ليكي وناكالا)، ومحاور نقل إقليمية، وبنى تحتية رقمية (مثل كابلات 2Africa)، ومحاور طاقة متجددة ناشئة؛ وهي ممرات تحوّلها تدريجياً إلى شبكة كثيفة من الشرايين الإستراتيجية.

ويرى الباحث نفسه أن إفريقيا لم تعد تظهر كحدود هامشية، بل أصبحت مركز ثقل أساسيا في الجغرافيا الاقتصادية العالمية، وساحة حاسمة يُعاد فيها تنظيم موازين القوى في المستقبل.

وفي ضوء هذه الأهمية يطرح الروداني تحديًا صريحًا للولايات المتحدة: لا يمكن لواشنطن أن تسعى إلى ترسيخ شراكة إستراتيجية مع إفريقيا دون تكييف أدواتها للتعامل مع واقع القارة المتحول.

وتتطلب الشراكة الموثوقة، وفقاً للدراسة، سلسلة من الإصلاحات والتعهدات الملموسة، منها إصلاح التمويل التنموي، موردة أنه يجب على وكالات مثل “DFC” و”EXIM Bank” توسيع نطاق تقبّلها للمخاطر وتسريع جداول صرف الأموال، وإنشاء قنوات تمويل مخصصة لتمويل الممرات الإفريقية الإستراتيجية.

وتحدثت الوثيقة أيضا عن ضرورة تقديم ضمانات سيادية لتمكين الحكومات الإفريقية من تأمين رأس المال بأسعار فائدة مستدامة للمشاريع الضخمة، بدلاً من الاعتماد على التمويل غير الغربي، وكذا التطوير المشترك للمعايير عبر بناء اتفاقيات سيادة مشتركة في مجالات اعتماد المعادن وحماية الممرات، لمنع اندماج إفريقيا في تكتلات سلاسل القيمة المتنافسة.

ومن بين الضمانات التي ذكرتها الدراسة ضرورة نقل التكنولوجيا بدلاً من حجبها، مبرزة أنه يجب على الولايات المتحدة تبادل تقنيات معالجة المعادن والمعرفة الفنية المتعلقة بصناعة المواد الأولية للبطاريات، لتتجاوز إفريقيا دور “مُستخرج المواد الخام”، وأيضا تعزيز الأمن البحري عبر تطوير منصات مراقبة مشتركة والتعاون الأمني البحري لحماية المحيط الأطلسي وخليج غينيا والمحيط الهندي من الجهات الفاعلة الهجينة، ثم تجنب نقل التنافس العالمي، وزادت أن على واشنطن ألا تسمح بأن تصبح إفريقيا امتدادًا لمنافستها الإستراتيجية مع الصين أو روسيا، بل عليها التركيز على دعم هياكل الحوكمة ومعالجة مواطن الضعف الجيوسياسية في القارة.

وتؤكد الورقة أن إفريقيا نفسها تخضع لإعادة تعريف عقائدي لمفهوم السيادة، فالسيادة لم تعد تُفهم كـ”عزلة”، بل تُقاس بالقدرة الوظيفية على معالجة الموارد، وإدارة البنى التحتية الرقمية، وتشغيل الممرات الإستراتيجية.

وأكد الروداني أن القارة تتبنى منهجًا لـ”التموضع” وليس “التوافق”، إذ تسعى إلى امتلاك مساحة سيادية بين الأقطاب العالمية المتنافسة، وترفض السماح للقوى الخارجية بتحديد أفقها الإستراتيجي، كما يتضح من ارتفاع القيود على تصدير المعادن الخام والإصرار على التصنيع المحلي.

ويخلص الخبير نفسه إلى أن مصداقية أي شراكة متجددة بين إفريقيا والولايات المتحدة ترتكز على قدرة واشنطن على التعامل مع القارة كشريك في بناء النظام العالمي الناشئ، وليس كمنطقة عازلة، خاتما: “لا تكتفي القارة بالاستجابة للتحولات العالمية، بل تعيد تموضع نفسها عمدًا كمولد للاستقرار الإستراتيجي وقوة دافعة ضمن البنية العالمية للترابط”.

المصدر: هسبريس

شاركها.