أكد محمد بنعليلو، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن التصدي للفساد لم يعد يمكن أن يبقى رهين رد الفعل أو التدخل بعد وقوع الضرر، داعياً إلى إرساء تحول مؤسسي عميق يقوم على الانتقال من منطق “المعالجة”إلى منطق “الوقاية الذكية والاستباقية”، وبناء منظومة قادرة على فهم الظواهر المرتبطة بالفساد وقياسها والتنبؤ بها.
وشدد بنعليلو، اليوم الثلاثاء بميدنة سلا، خلال تقديم الاستراتيجية الخماسية الجديدة للهيئة، على ضرورة اعتماد مقاربة شمولية تجعل من النزاهة نظاما عاماً يشمل القطاعين العام والخاص، بالاستناد إلى تعبئة مجتمعية واسعة ورؤية موحدة، انسجاما مع التوجيهات الملكية التي اعتبرت محاربة الفساد مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، وليست مجالاً للمزايدات أو الجهود الفردية.
وأوضح رئيس الهيئة أن الاستراتيجية الجديدة ترتكز على مرجعيتين أساسيتين: الإطار الدستوري الذي يضع الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة ضمن أسس الدولة الحديثة، والتحول القانوني الذي منح الهيئة صلاحيات واسعة باعتبارها قطبا وطنيا مرجعيا في قيادة النزاهة وتوجيه السياسات العمومية ذات الصلة بمكافحة الفساد.
وبين بنعليلو أن الفساد اليوم لم يعد مجرد ممارسات معزولة أو تجاوزات بسيطة، بل أصبح ظاهرة منظمة ذات امتدادات تقنية ومالية وقدرة على التكيّف واستعمال أدوات متطورة لإخفاء المعطيات أو تهريب الأموال، مما يستدعي أدوات حديثة تتجاوز الأساليب التقليدية.
وأفاد بأن الاستراتيجية الخماسية تقوم على ستة محاور كبرى تتفرع إلى 24 محورا تنفيذيا وتشمل مجموع 99 مشروعا مهيكلا، لكل واحد منها أهداف واضحة ومؤشرات قياس وآليات متابعة سنوية. وتمثل هذه الحزمة، بحسب بنعليلو، “تعاقدا مؤسساتيا” بين الهيئة والدولة والمجتمع، وليست مجرد إعلان نوايا.
ويأتي المحور الأول مرتبطا بتعزيز القيادة المعيارية والاستشرافية للهيئة، عبر وضع منظومة وطنية للقياس والمؤشرات، وإطلاق باروميتر وطني للنزاهة، وتقديم تصور لاستراتيجية وطنية جديدة لمكافحة الفساد بعد تقييم استراتيجية 20152025.
أما المحور الثاني فيركز على تمكين الفاعلين العموميين والقطاع الخاص والمجتمع المدني من آليات الوقاية واليقظة المبكرة، عبر تطوير منظومات التبليغ الآمن، وتعزيز أنظمة الامتثال وتدبير تضارب المصالح، وإحداث آليات يقظة خاصة بالقطاعات ذات المخاطر المرتفعة.
ويهم المحور الثالث إشاعة ثقافة النزاهة، باعتبارها سلوكا مجتمعيا وقيمة عمومية ترسخ عبر التربية والتأطير والبرامج الإعلامية، مع دعم الصحافة الاستقصائية والانخراط المدني، بينما يركز المحور الرابع على الانفتاح الدولي وتعزيز الشراكات متعددة الأطراف باعتبارها جزءاً من حماية المصالح الوطنية في مجال النزاهة.
ويعتبر التحول الرقمي محورا مركزيا داخل الاستراتيجية، حيث يشكل المحور الخامس الذي يجعل من الذكاء المؤسسي ورقمنة المساطر وحكامة البيانات أدوات رئيسية للشفافية والتحليل واتخاذ القرار. ويأتي المحور السادس لترسيخ جاهزية الهيئة ومكانتها الاستراتيجية عبر تعزيز الحكامة الداخلية والمساءلة والقرب الترابي وتوسيع التمثيليات الجهوية.
وأكد بنعليلو أن نجاح الاستراتيجية لن يتحقق دون انخراط جماعي يشمل الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية والقطاع الخاص والهيئات الرقابية والمجتمع المدني والإعلام، معتبراً أن النزاهة تمثل شرطا أساسيا لبناء دولة اجتماعية قوية ودعم الاستثمار وترسيخ الثقة بين المواطن والمرفق العام.
وأوضح أن الهدف هو الانتقال نحو نموذج يجعل من سنة 2030 محطة تحول مؤسسي وثقافي قابلة للقياس، بحيث يشعر المواطن والمستثمر بوجود هيئة فعالة ومؤثرة، قادرة على لعب دور “المحفّز” بين مختلف المتدخلين في منظومة النزاهة.
وشدد رئيس الهيئة على أن المطلوب اليوم هو قيادة معركة النزاهة برؤية واضحة ومسؤولية مشتركة، داعيا إلى تحويل الاستراتيجية الخماسية من وثيقة مرجعية إلى ممارسة عملية تُحدث أثرا ملموسا في الميدان، وتُعيد بناء الثقة باعتبارها “الرأسمال المؤسسي”، الأهم لضمان نجاح التنمية والإصلاح.
المصدر: العمق المغربي
