محاولة لتفكيك البذاءة: من شرارات الدماغ الأولى، إلى خرائط المجتمع، ومن ظلال الأبوية الثقيلة، إلى تمرّد النسوية، ومن صرخات الثورة…إلى شتائم الحرب.

د. ناهد محمد الحسن

تمهيد:

سأحاول في هذه السلسلة أن أصحبكم في رحلة لتفكيك طبقات (البذاءة والعنف اللفظي) من الدماغ، مرورا بالموروث الاجتماعي، ننحني فوق جغرافيا الحرب، وتتلمّس جروح النساء، ونصعد مع أصوات المقاومة، وننزل مع ظلال الأبوية…

لنستعيد للغة انسانيتها وننجو! هذه السلسلة ليست درسًا في الأخلاق، ولا دفاعًا عن البذاءة، ولا هجومًا عليها. إنها محاولة لفهم “الكلمة السودانية” في زمن تتغير فيه القيم بسرعة الانهيار، لا ببطء التحولات الطبيعية التي تمر بها المجتمعات الامنة.

لمن نكتب هذه السلسلة؟  نكتبها لكل من وجدت نفسها محاصرة بجيش من البذاءات لمجرد أنها قالت رأيًا. و لكل مُتهم بالضعف لأنه لم يشتم. وللواتي يبحثن عن طرق لاختلاف آمن. ولكل من يريد أن يعرف لماذا يتدهور الحوار حين ينهار الوطن. ولمن يريد أن يقاوم…لكن لا يعرف بأي لغة، ولا أين يتوقف.

(1)

الوجوه المتعددة للبذاءة: من اللغة إلى الدماغ… ومن الجسد إلى القانون

البذاءة كلمة ثقيلة حين ننطقها، لكنها أخفّ بكثير حين تنفلت من اللسان لحظة ألم أو غضب أو خوف. يبدو أن الإنسان منذ فجر الوعي، احتاج دائمًا “كلمة” يقولها حين لا يجد كلمات. كلمة تشبه الصرخة، لا الجملة. تشبه الدفاع، لا الحوار. تشبه النفس الحبيس وهو ينفجر. وفي هذا المقال نبدأ رحلتنا لفهم البذاءة باعتبارها ظاهرة لغوية، عصبية، اجتماعية، وقانونية، لنضع أول لبنة في بناء السلسلة.

يلاحظ اللغويون أن كل الثقافات مهما اختلفت، تصنع ثلاث مجموعات من (الكلمات المحرمة). (1) مجموعة تطوف حول الجنس والجسد، لأنهما يمسّان أعمق طبقات الخجل والهوية. (2) ومجموعة توظف القذارة والتلوث، لأن النفور البيولوجي يتحول عبر الزمن إلى نفور لغوي. (3) كما تعبث المجموعة الثالثة بأقفال المقدّس والدين، لأن المساس بالمقدّسات يفتح باب السلطة الرمزية. وهذه الكلمات تصبح “بذيئة” ليس بذاتها، بل بما تحمله من اختراق للمحظور. البذاءة إذن ليست كلمة قبيحة… بل اصطدام بقيمة أعلى.

هذا من منظور اللغة، اما من منظور علم الدماغ، فالبذاءة هي لغة الطوارئ التي لا تستأذن العقل. فحين يصرخ الإنسان بكلمة جارحة، فإنه غالبًا لا يفكر. وهنا يكمن السر العصبي، فاللغة التي يصنعها العقل الواعي تسكن في الطبقات العليا من الدماغ في مناطق معينة، نافذة في قشرة الدماغ التي تؤثر وتتأثر بكل مناطق الدماغ المسؤولة عن الحواس والذاكرة والتعلم. فهذه اللغة تحتاج ترتيبًا، نحواً، ووقتًا لتخرج مناسبة ومراعية للسياق. أما البذاءة فهي بنت اللغة التي يصنعها الجهاز الحوفي limbic system  تسكن في بني تحت قشرة الدماغ ممثلة في اللوزة الدماغية (Amygdala)، العقد القاعدية basal ganglia مراكز القتال أو الهروب. هذه اللغة لا تحتاج إذنًا من العقل. إنها انفعال يُنطق. ولذلك مريض الجلطة الدماغية قد يفقد القدرة على مخاطبتك، لكنه يحتفظ بالقدرة على الشتائم؛ لأن البذاءة مخزّنة في نظام عاطفي بدائي أعمق من مراكز الكلام الواعي. ومصاب متلازمة توريت قد يطلق الشتائم لاإراديًا دون أن يعكس ذلك أي نية أو غضب، لأن العُقد القاعدية تُطلق الأصوات دون موافقة القشرة الجبهية التي تضبط السلوك. البذاءة هنا ليست سلوكًا أخلاقيًا، بل ظاهرة عصبية.

من الملاحظ ان الناس تتحمّل الألم أكثر حين تشتم، فالبذاءة من منظور الكيمياء العصبية، ودراسات علم الأعصاب (Stephens et al., 2009) أظهرت أن الشتيمة: ترفع الأدرينالين، تقلل الإحساس بالألم، تنشّط الجهاز الودي sympathetic system مما يزيد القدرة على التحمل تحت الضغط. إنها أشبه بـ “حقنة بقاء” لفظية. وهذا يفسر الشتائم في لحظة السقوط، الشتائم حين يُغلق الباب على الأصابع، الشتائم في الجراحة أو الولادة، والشتائم عند الخوف المفاجئ. إنها آلية بقاء قبل أن تكون كلمة سيئة.  لكن من يعرف الكلمة السيئة ويصنع قائمة “الممنوعات”؟ وهذا ما يجيب عليه علم الاجتماع حين يقول إن المجتمع يحدد حدود الكلام لأنه يحدد حدود السلطة. ففي منظور علم الاجتماع البذاءة تُفهم ضمن سياقات ثلاثة، كتمرد على السلطة؛ حين يكسر الناس كلمة ممنوعة، فهم يكسرون معها النظام الرمزي الذي يحكمهم. والبذاءة كأداة تماسك داخل مجموعات معينة، فالبعض يستخدمونها كإشارة قرب و“لغة أخوّة”. غير ان البذاءة يمكن أن تكون أيضا سلاح إقصاء وتمييز، أداة تنمّر، تخويف، أو فرض هيمنة. وهكذا تتبدل البذاءة بين المقاومة والإيذاء… حسب السياق.

قد يفترض الناس أن القانون يجرّم “الكلمة البذيئة” لكن سنرى هنا كيف حكمت المحاكم على الكلمات؟ فالحقيقة أعمق وأعقد بكثير. القانون لا يعاقب الكلمة لذاتها، بل لسياقها ووظيفتها. وهنا تأتي أهم قضيتين في التاريخ الأمريكي الحديث: قضية ميلر في مواجهة ادعاء كاليفورنيا Miller v. California (1973)، القصة التي غيّرت تعريف البذاءة الجنسية. فما الذي حدث؟

مارفين ميلر، هو صاحب شركة مواد إباحية، أرسل منشورات دعائية بالبريد إلى سكان مدينة صغيرة، احتوت المنشورات على صور فاضحة، رسومات جنسية، ونصوص إباحية. إحدى السيدات فتحت البريد وهي تتناول الغداء مع أطفالها، فشعرت بالإهانة، واشتكت. تمت محاكمة ميلر بتهمة توزيع مواد فاحشة علنًا. دفوع ميلر تمثلت في قوله إن هذا إعلان تجاري مشروع، وأن القانون ينتهك حقه في حرية التعبير. فماذا حكمت المحكمة العليا؟ أقرت المحكمة أن المواد الإباحية قد تُجرّم لأنها لا تحمل قيمة اجتماعية أو فنية أو سياسية. وصاغت المحكمة اختبار ميلر الشهير لتحديد البذاءة. و هي باختصار معايير تقوم على ثلاثة أسئلة، يقوم أولها على رأي الشخص العادي إن كان يراها مثيرة للغرائز وفق معايير المجتمع المحلي ام لا؟ وإذا كانت تعرض سلوكًا جنسيًا بطريقة فاضحة تخالف القانون؟ والمعيار الأخير هل تفتقر كليًا لأي قيمة أدبية، فنية، سياسية، أو علمية؟ إذا توفرت الشروط الثلاثة… فهي بذيئة وغير محمية دستوريًا. أهمية هذه القضية، انها جعلت “البذاءة” تُعرّف حسب المجتمع المحلي لا معيارًا وطنيًا واحدًا. ومن ثم أصبحت أساس قوانين مكافحة الإباحية. ولكنها خلقت نقاشًا واسعًا حول من يقرر معيار الذوق العام؟ سبقت قضية ميلر قضية في عام Cohen v. California (1971) القصة الشهيرة للسترة التي غيّرت حرية التعبير. حيث دخل بول كوهين إلى محكمة في لوس أنجلوس مرتديًا سترة عليها عبارة بذيئة ساخطة، احتجاجًا على تجنيد الشباب لحرب فيتنام. تم القبض عليه حينها بتهمة استخدام لغة بذيئة في مكان عام. وبنى الادعاء حجته على أن الكلمة فاحشة، وقيلت في مكان رسمي وقد تثير الاضطراب. بينما احتج كوهين بأن العبارة خطاب سياسي غير موجه لشخص بعينه، ولم يتسبب في شجار. ألغت المحكمة الإدانة وقالت عبارتها الخالدة بما يعني أن “بذاءة شخص هي قصيدة شخص آخر.” “One man’s vulgarity is another’s lyric.” لماذا انتصر كوهين؟ لأن البذاءة كانت سياسية وليست جنسية، لم يكن هناك تحريض أو عدوان، ولا يحق للدولة أن تفرض “تنقية أدبية” على الخطاب السياسي، بالإضافة الى ان تجريم كلمة واحدة يفتح بابًا للاستبداد. وقد ارست هذه القضية مبدأ أن الخطاب السياسي محمي، حتى لو كان جارحًا.

حين ننظر إلى البذاءة عبر اللغة، الدماغ، الكيمياء، المجتمع، والقانون…نكتشف أنها ليست مجرد كلمة يتفوه بها الشخص الغاضب، بل ظاهرة كاملة: لغة عصبية بدائية، أداة تحمّل للألم، محاولة لقول ما لا يمكن قوله، مقاومة في وجه السلطة،

سلاحًا حين تنهار الأخلاق في زمن الحرب، وحدًا قانونيًا يتراوح بين الحماية والمنع حسب السياق. وفي السودان اليوم كما في العالم كله السؤال لم يعد: “هل البذاءة خطأ؟”

بل: متى تكون البذاءة مقاومة؟ ومتى تكون جرحًا؟ ومن يملك الحق في رسم حدودها؟

نواصل، في مقال القادم عن البذاءة كأداة مقاومة

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.