تتكثّف المؤشرات على أنّ الجنوب اللبناني يشهد مرحلة إعادة تشكيل دقيقة في ميزان القوى، بعدما رصدت دوائر دبلوماسية غربية ارتفاعاً في مستوى الحساسية الميدانية وتبدّلاً في نمط الاحتكاك على خطوط التماس.

يأتي ذلك، في وقت تبذل فيه الدولة اللبنانية جهوداً متواصلة لتثبيت الاستقرار ضمن قواعد اشتباك لم تعد ثابتة كما كانت.
حسابات ميدانية متبدّلة

يقول مصدر دبلوماسي غربي، متابع للملف اللبناني ضمن قنوات اتصال أممية- دولية، إن الأسابيع الأخيرة حملت إشارات واضحة على ارتفاع احتمال الانزلاق إلى مستوى أعلى من التوتر، وإنّ ما يجري جنوب الليطاني يمثل تطوّراً يتعلّق بتغيّر البنية الأمنية في المنطقة. 

ويوضح أنّ المعلومات المتقاطعة تشير إلى زيادة اعتماد حزب الله على منشآت محمية تحت الأرض في بعض النقاط الحساسة، وهو إجراء يلجأ إليه الحزب عادة في فترات التوتر تحسّباً لأي سيناريو مفاجئ.

ويضيف أنّ هذه المؤشرات “تدخل في الحسابات الإسرائيلية بشكل جدّي” لأنها تعكس مرحلة استعداد ميداني تُعيد خلط وتيرة الاشتباك.

وبحسب المصدر الدبلوماسي، فإن إسرائيل أعادت فتح ملف الجبهة الشمالية في اجتماعاتها الأمنية الأخيرة، من دون أن تحسم خيار الذهاب إلى حرب واسعة، لكنها تُجري تقييماً دقيقاً لسلسلة سيناريوهات تمتدّ من الردّ المحدود إلى عملية أوسع نطاقاً إذا شعرت بأنّ بيئة الردع تتغيّر أو أنّ الاحتكاك الميداني يخرج عن السيطرة. 

ويرى المصدر أنّ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية باتت تتعامل مع الجنوب بوصفه “جبهة حسّاسة تحتاج مراقبة مستمرة”، خصوصاً في ظلّ التعقيد الذي يخلقه وجود سلاح خارج إطار الدولة اللبنانية رغم التحركات السياسية والأمنية التي تبذلها الحكومة لضبط الاستقرار.
موازين متحركة

ويشير المصدر إلى أنّ الحرب الشاملة ليست خياراً سهلاً بالنسبة لإسرائيل، لأن أي قرار بفتح معركة كبرى يحتاج إلى بيئة سياسية ودبلوماسية لم تتشكّل بعد، إلا إذا بلغ الاحتكاك مستوى يجعل “الامتناع عن الردّ أقل كلفة من الردّ نفسه”.

ولهذا، تعتمد تل أبيب حالياً منهج “إعادة التقييم المستمر” بدل الاندفاع نحو مواجهة واسعة.

من الجانب اللبناني، يؤكّد مصدر سياسي رفيع، أنّ الدولة اللبنانية استعادت في الأشهر الماضية قدراً أكبر من القدرة على إدارة الملفات الحساسة، بما فيها الجنوب، مستفيدة من دعم دولي متزايد للجيش وعودة الدور الدبلوماسي الحكومي في ضبط خطوط التواصل مع الأمم المتحدة.

ويشير المصدر إلى أنّ تراجع هامش المناورة لدى حزب الله في الداخل، نتيجة الضغوط الاقتصادية وتبدّل المزاج الشعبي وتراجع فعاليته الإقليمية، جعل الحزب “أقل قدرة على فرض إيقاعه التقليدي على الجبهة الجنوبية”، على الرغم من احتفاظه ببنية مسلّحة مستقلة.

ويضيف أنّ الدولة تعمل ضمن واقع ميداني معقّد تسعى من خلاله إلى تثبيت الاستقرار ومنع أي انزلاق قد يُستغلّ إقليمياً. هذا العمل، وفق المصدر، “لا يلغي وجود سلاح خارج الشرعية، لكنه يحدّ من قدرته على التحكم بمسار التصعيد”.

وبذلك تبدو الجبهة الجنوبية اليوم في وضع تتراجع فيه قدرة حزب الله على المبادرة منفرداً، فيما ترتفع أهمية الدور الرسمي اللبناني في الحفاظ على التهدئة وتثبيت قواعد الاشتباك.
مرحلة احتكاك دقيق

يعتبر المصدران اللبناني والغربي أنّ الجبهة الجنوبية لا تتجه حالياً نحو حرب شاملة، لكنها دخلت فعلاً مرحلة “احتكاك دقيق” تتطلب إدارة سياسية وأمنية متواصلة.

فالمشهد لم يعد مستقراً بالكامل، ويمكن لأي حادث محدود- سواء خطأ ميداني أو اشتباك موضعي- أن يفتح الباب أمام تصعيد أكبر إذا لم تُفعَّل شبكات الوساطة والتهدئة.

ويشير المصدر السياسي إلى أنّ الدولة اللبنانية باتت أكثر حضوراً في إدارة هذا الاحتكاك، سواء عبر القنوات الدبلوماسية أو من خلال التنسيق المتقدّم مع قوات الأمم المتحدة والجيش اللبناني، إلا أنّ وجود سلاح خارج الشرعية يستمر في خلق هامش خطر إضافي قد يُستغلّ في فترات التوتر.

لكنّه يلفت إلى أنّ تراجع قدرة حزب الله على فرض إيقاعه التقليدي يعيد للدولة جزءاً من القدرة على ضبط الإطار العام للتهدئة، رغم بقاء السلاح الموازي عاملاً مقلقاً في أي سيناريو.

ويضيف أنّ المرحلة الراهنة “تتطلب توسيع دور المؤسسات الرسمية”، لأنّ تثبيت الاستقرار بات مرتبطاً بقدرة الدولة على إدارة التوازنات ومنع انزلاق الجبهة نحو مواجهة لا ترغب بها.

بين ضبط الإيقاع وخطر الانزلاق

الباحث اللبناني المتخصص في الاستراتيجيات الأمنية، نديم شرفان، يرى خلال حديثه أنّ الجنوب اللبناني يعيش اليوم لحظة “توازن دقيق” لا يشبه المراحل السابقة، لأن بنية القرار داخل لبنان باتت أكثر ميلاً نحو تثبيت الاستقرار مقارنة بسنوات مضت، فيما لم يعد حزب الله يمتلك القدرة نفسها على فرض إيقاع أحادي بفعل تراجعه الداخلي وتغيّر المزاج الشعبي والسياسي.

ويشير شرفان إلى أنّ احتمالات الحرب الشاملة لا تزال “منضبطة” لأن إسرائيل تدرك أنّ أي مواجهة واسعة لن تعطي نتائج حاسمة، لكنها في الوقت نفسه لن تتردد في فتح معركة محدودة أو ضربة مركّزة إذا شعرت بأنّ حزب الله يعيد بناء قدرات لا ترغب بتطوّرها.

ويعتبر أنّ السيناريو الأكثر واقعية هو تصعيد محسوب يبدأ بعملية خاطفة إسرائيلية ضد هدف نوعي، يتبعها اشتباك محدود، قبل أن تتدخل الوساطات الدولية لمنع الانزلاق. لكنه يحذّر من أنّ أي خطأ ميداني أو سوء تقدير قد يدفع الأمور نحو حافة مواجهة أكبر، رغم أنّ الطرفين لا يرغبان بها في الوقت الراهن.

إسرائيل تعيد هندسة الجبهة

بدورها، تؤكد إليزابيث كارتر، المتخصصة في ديناميات النزاعات والردع العسكري في الشرق الأوسط، بأنّ إسرائيل “تدرس كل السيناريوهات بلا استثناء”، من الردّ التكتيكي المحدود وصولاً إلى عملية أوسع نطاقاً في حال فقدت السيطرة على ردع حزب الله. 

لكنها تشير إلى أنّ قرار الحرب في إسرائيل ليس عسكرياً فقط، وإنما يخضع لحسابات سياسية داخلية وتعقيدات دبلوماسية مع الولايات المتحدة وأوروبا.

وتقول كارتر إن السيناريو الأكثر احتمالية هو ما تسمّيه “عملية إعادة ضبط الجبهة”، وتشمل: “ضربات وقائية ضد مواقع يُعتقد أنها حساسة أو قابلة للتطوير، ودفع الحزب إلى خفض حضوره القريب من الحدود، لفرض قواعد اشتباك جديدة من دون إعلان حرب كاملة”.

أما السيناريو الثاني، بحسب كارتر وهو الأقل احتمالاً لكنه غير مستبعد، فيتمثل في عملية برية محدودة يجري فيها احتلال شريط أمني ضيّق لوقت قصير، بهدف منع اقتراب أي بنى عملياتية من الحدود.

وهذا السيناريو، وفق المتحدثة، “كان يُطرح في النقاشات المغلقة لكنه يظلّ مكلفاً جداً”، ما يجعل إسرائيل تميل حالياً إلى الاعتماد على الضغط الجوي والاستخباراتي.

وفيما يتعلق بالسيناريو الأكثر خطورة، أي الحرب الشاملة، تؤكد كارتر أنّه “غير مرجّح” لأنّ كلفته السياسية والعسكرية كبيرة، ولأنّ إسرائيل تدرك أنّ البيئة الإقليمية ليست مواتية لفتح معركة طويلة.

لكنها تضيف أنّ التطورات السريعة على الأرض قد تفرض نفسها أحياناً على الحسابات العقلانية، خصوصاً إذا تدهورت القدرة على ضبط الاحتكاكات أو إذا رأت إسرائيل أنّ ميزان الردع يتآكل بسرعة.

شاركها.