أمد/ “أنا مؤسس أول جمهورية شعرية أكثر مواطنيها نساء..”(نزار قباني)

مقدمة : قصيدة “ظلال الوداع” للشاعر التونسي د طاهر مشي تقدم تجربة وجدانية عميقة تعبر عن حالة فراق وألم وحنين،من خلال لغة شعرية مكثفة وصور فنية مؤثرة.تتداخل في القصيدة عناصر الرومانسية والوجدانية الصوفية بأبعاد إنسانية معاصرة.

يعتبر الشعر منذ نشأته وتطوره عبر التاريخ حالة فريدة تستفيد من اللغة العربية من خلال تحريك معانيها والاستفادة من مجالها الإبداعي والروحي والفني،وإذا كان الشعراء الكبار من أمثال امرئ القيس وأبي الطيب المتنبي والنابغة الذبياني،وشعراء معاصرين أمثال أبي القاسم الشابي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم عرفوا كيف تستخدم فنون اللغة في الشعر سواء من خلال محاكاة الإبداع الجمالي أو بناء الصور الفنية وتوظيفها في روح القصيدة،أو من خلال تفرّد اللغة وجمالها في بناء القصيدة وتحويرها،فإن أكبر ملهم للشعراء في إيصال القصيدة إلى مرحلة التصوير الفني والجمالي هو قدرة الشاعر ومهارته في استخدام اللغة وخياله الإبداعي وفنون التعبير عن حالته وسبكه للأبيات..

من هنا،لا أجانب الصواب،ولا أرمي الورود جزافا،إذا قلت أن الشاعر التونسي القدير دطاهر مشي شاعر حجز لنفسه مقعدا للشعر في عالم الإبداع تونسيا وعربيا،إذ ينطق بموهبة شعرية عربية أصيلة،يخضب حرفه بشاعريته و فلسفة أشعاره لتمتزج المدارس الأدبية الشعرية في كتاباته المتماوجة بين الرمزية و الرومنسية، وليصير التشكيل السريالي في الرسم ( الفن التشكيلي ) ظاهرا في قصائده معلنا ميلاد شاعر متجه إلى البحث عن طريقة و أسلوب خاص لتبليغ رسالته الشعرية في عالم سريالي رائع مملوء بالتساؤلات والصور الشعرية المكثفة المتداخلة و التي إن دلت تدل على جمالية الإبداع و التحليق بالقارئ في صوفية الوجدان و عبقرية البوح العفوية التي يغرق فيها الشاعر دطاهر مشي..

و لعلني أستشهد بقصيدة من روائع قصائده الشعرية :

ظلال الوداع

 أحبّكِ والقلبُ شاخَ الحنينُ

وفي الروحِ جرحٌ يبوحُ السكونُ

أتجول في الليل وأحسب خطواتي.

فيسبقني الشوقُ حيثُ تكونُ

أحنُّ إليكِ ووجدي جناحٌ

يُطيرُ بقلبي ويُغري الظنونُ

فإن جئتِ عادَ الربيعُ دفينًا

وإن غبتِ ماتتْ أغاني المجون

كتبتُ عنكِ الهوى والدموعا

وعن رحلتي حينَ ضاعَ الفتونُ

فإن عدتِ عادَ لنفسي أمانٌ

وإن لم تعودي تَهيمُ السُّنونُ

ويمتدُّ دربي إذا ما افترقنا

ويُثقلُ روحي مرايا الشجون

وأجمعُ أنفاسي خوفَ الفراقِ

فيا ليتَ قلبي تقيهِ الحصون

إذا ما تنادَيْتِ عادَ الرجاءُ

وعادَ لصدري نسيمٌ يمون

وإن طالَ صمتُكِ ماتتْ خطايا

وكان الرحيلُ سؤالاً يخونُ

فكوني معي نجمةً لا تغيبُ

فإني بغيرِكِ—ربيعٌ يهونُ

وأمسي غريبًا تجرّعُ روحي

همومًا إذا غبتِ لا تستكينُ

 ويخبو بقلبي ضياءُ الأماني

وتُطفِئُ روحي ركامُ هجين

وفيكِ ملاذُ الحياةِ الوضيءِ

وحُسنٌ إذا لاحَ حصن  مكين

 فإن كنتِ في القلبِ نبعُ الأملُ 

فأنتِ مع النجمِ أبهى سكون 

وإن صاغك النبض هذا القصيد

فإنكِ وحدكِ مرادُ الجنونُ

طاهر ماشي

إن القصيدة التي بين أيدينا من روائع الشعر (وهذا الرأي يخصني)،و لعل القراءة الإنطباعية التي كنت قد قدمتها سريعة،إلا أننا نلمس أسلوبا جديدا في إيصال الرسالة الإبداعية انتفضت فيه شخوص متعددة داخل الفضاء الشعري للقصيدة ( الشاعرالوَجدالعشقالغرام..مناجاة الحبيبة بأسوب شعري عذب..) ،فالخلق الفني متفاوت في جسد القصيدة تبعا لإهتزازت نفسية الشاعر بين الصوفية و الرومنسية و الرمزية  والصورة السريالة الراقية ..

و نحن لا نبحث عن التجربة الانفعالية،بل نبحث عن قوة التاثير التي كان الشاعر موفقا فيها بطريقته الإبداعية،لأن معيار التمكن الفني لا يكمن في ارتباط القصيدة بذاتية المبدع،بل يتحوله إلى معيار التمكن الموضوعي عندما تترك القصيدة أثرها و مدى تأثيرها في عقل و قلب المتلقي للرسالة الإبداعية..

هذه اللوحة الشعرية الرائعة(“ظلال الوداع”)   مكتوبة على وزن بحر الكامل (متفاعلن متفاعلن متفاعلن)،مما يعطي إيقاعاً منتظماً يتناسب مع موضوع الحزن والتفجع.

والسبب في ذلك أنَّ تفعيلته (متفاعلن) تظهر في أبيات القصيدة بنظام مطّرد،كما يظهر من وزن الأبيات وإيقاعها.

وتفتتح بعنوان دالّ “ظلال الوداع” الذي يضع القارئ في جوّ من الوداع الحزين والفراق المؤلم،حيث تشير كلمة “ظلال” إلى بقايا وأشباح العلاقة التي قد تكون انتهت.كما أنها  (القصيدة) تبدأ ببيت عاطفي مباشر:

“أحبّكِ والقلبُ شاخَ الحنينُ

وفي الروحِ جرحٌ يبوحُ السكونُ”

وهنا نلاحظ:

افتتاحية قوية بالاعتراف بالحب رغم مواجع القلب من طول الحنين..واستخدام لفظ “شاخ” مجازاً للحنين،مما يوحي بأنه قديم ومتعب،كذلك التناقض بين “جرحٌ يبوح” و”السكون” حيث الجرح يتحدث في صمت الروح،كما أن الجناس بين “شاخ” و”بوح” يعطي إيقاعاً داخلياً..

اعتمد الشاعر على نظام المقطوعة الشعرية ذات الشطرين المتساويين في الغالب:تفعيلة متقاربة تخلق إيقاعاً حزيناً يتناسب مع موضوع الفراق، تكرار القافية النونية (“الحنين”، “السكون”، “تكون”، “المجون”… إلخ) التي تعطي نغمة موحدة تزيد من تأثير الحزن والوجع.

خلاصة القول : قصيدة “ظلال الوداع” تمثل نموذجاً للشعر العاطفي العميق الذي يجمع بين صدق العاطفة وجمال الصورة وإتقان الشكل.تبدأ القصيدة بجرح في السكون وتنتهي بجنون في النبض،في رحلة شعرية تعبر عن تناقضات الحب بين الأمل واليأس،الحضور والغياب،االعقل والجنون..والشاعر (دطاهر مشي) ينجح في تحويل المشاعر الشخصية إلى تجربة إنسانية عامة من خلال لغة مجازية مؤثرة وبناء فني متكامل.

أما الصور الفنية،فتتجلى بوضوح على غرار 

 الطيران والجناح: “ووجدي جناحٌ يُطيرُ بقلبي” ،

 الربيع والموت الموسمي: “عادَ الربيعُ دفينًا” مقابل “ماتتْ أغاني المجون”، القلع والحصون: “يا ليتَ قلبي تقيهِ الحصون”، النجوم والغياب: “كوني معي نجمةً لا تغيبُ”و الضوء والخبو: “ويخبو بقلبي ضياءُ الأماني..

هذا البناء الفني المتكامل جعل القصيدة (“ظلال الوداع” تتميز بوحدة موضوعية قوية،حيث تنسجم الصور والإيقاع والعاطفة لترسم لوحة وجدانية متكاملة.وقد استطاع الشاعر ببراعة واقتدار تحويل التجربة الشخصية إلى تجربة إنسانية شاملة،مستخدماً أدوات فنية تقليدية بطريقة معاصرة ومؤثرة،مما سيبقي القصيدة نموذجاً للشعر الوجداني الذي يجمع بين جزالة اللغة وعمق التجربة وصدق العاطفة.

وإذ أختم هذه القراءة العجولة،فإني لا أجد هناأجمل من قول “كارل ساندبرج”: “الشعر يوميات يكتبها كائن بحري يعيش على البر حالماً بالطيران.”

وأرى شاعرنا دطاهر مشيقد جاوز ذلك أيضاً،فهو شاعر،وإنسان،وعاشق،ومبدع،يعيش بين ضلوع وحنايا القلب،يكتب بريشة الحب سفر الإنسانية الخالد لكتاب الشعرية الأبديّ الممتد بين سماوات الكون،وسهول الأرض الممتدة بالاخضرار والحب والشعر أيضاً.كما أرى غربته العاطفية العاصفةتعاني وتعاين وتحلم،ولكنّها لا تهرب،بل تواجه بغير قليل من الصمود،وبغير قليل من المعاناة تماهيا مع وجدان تعتمل في داخله الأحاسيس وتحتدم المشاعر..ويندلق الحب في ثناياها المتعرّجة غزيرا بحجم المطر..

ولك مني يا شاعرنا السامق ( دطاهر مشي) باقة من التحايا،مطرزة بأريج الشعر ومفعمة بعطر الإبداع..

شاركها.