د. ناهد محمد الحسن

عندما دخل المنتخب السوداني إلى أرض الملعب في بطولة كأس العرب، كان هناك ما هو أهم مما يجري على العشب. ففي أحد ملاعب قطر، بعيداً عن الدخان والحواجز والأحياء المدمّرة في الوطن، وقف الآلاف من الرجال والنساء يهتفون وينشدون بصوت واحد. بالنسبة لشعب يعيش حرباً دموية، لم يكن هذا المشهد مجرد فعل رياضي؛ كان محاولة اجتماعياً للنجاة. ولوهلة حاولت وغيري أن نمسك باللحظة لننجو. غير أن التجربة كانت أغنى وأعقد بطريقة فتحت مسارات كثيرة للحس والتساؤل، وأنا أتابع نبضها بين رواد التواصل الاجتماعي، سأحاول بكل تواضع، في هذه السلسلة وصف ما حدث!

تقدّم الأدبيات النفسية والاجتماعية حول الرياضة والانتماء الوطني من نظرية الهوية الاجتماعية لتاجفيل وتيرنر، إلى دراسات الرياضة والقومية، ودراسات الذاكرة الجمعية، إطاراً تفسيرياً ثرياً لما شهدته الجاليات السودانية في الخارج، وخاصة في قطر، من حضور فائق للاحتفالات الرياضية في زمن الحرب.

الرياضة كوسيلة قوية لبناء الهوية الوطنية والذاكرة الجمعية:

وفق نظرية Tajfel & Turner، تتعزز الهوية الجماعية كلما زاد الإحساس بالتهديد. والسودان اليوم يعيش درجة قصوى من تهديد الهوية: حرب مدمرة، انهيار مؤسسات، نزوح جماعي، تفكك أقاليم، وفقدان للأمان واليقين. تحت هذا الضغط، يبحث الإنسان عن أقرب “مِظلّة هوية” يستطيع الاحتماء بها. وفي حالة السودانيين في الملعب: لون العلم، أغاني الكرة، شعار الفريق، لحظة الهدف، تتحول إلى “مراسي نفسية” تمنح إحساساً سريعاً بالثبات والانتماء. بمعنى آخر: الاحتفال الكروي يصبح رد فعل مباشر على تهديد الوجود الوطني، وشعور مكثف بالهوية الوطنية.

الأدبيات تقول إن الرياضة تعمل كوعاء ذاكرة مشتركة (Collective Memory Vessel). ، وبالنسبة للسودان، هذا واضح جداً. فالسودان بلد تعددي، منقسم سياسياً وإثنياً وثقافياً. لكن الرياضةوتحديداً المنتخب الوطنيدائماً ما كان مساحة مشتركة نادرة. لا يعرف مصطلحات (كالجلابة) ولا يحفل (بقانون الوجوه الغريبة). ولا زالت لحظات الفرح الرياضي محفورة في ذاكرة أجيال: الخرطوم 1970، سيكافا، انتصارات الهلال والمريخ الأفريقية… إلخ.

في بلد يعاني تعدد السرديات وفقدان القصص الوطنية الموحدة، تصبح الرياضة واحدة من آخر “الحكايات الجماعية” المتبقية، التي تُعيد الناس إلى نقطة شعور مشتركة بالسودانوية.

في مجالات علم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم النفس، يوجد إجماع واضح على أن: الرياضة واحدة من أقوى الساحات التي تتجسّد فيها الأمة، وتتخيّل نفسها، وتعيش مشاعرها الجماعية. هذه الفكرة تعود إلى مفهوم بندكت أندرسون حول “الجماعات المتخيّلة” أي أن الأمم تُبنى عبر الرموز والمشاعر المشتركة، لا عبر القرب الجغرافي فقط. Benedict Anderson يرى أن الأمم تُبنى على خيال مشترك يعيش في الوجدان. وهذا الكلام ينطبق على السودان اليوم بدرجة مذهلة. فملايين الناس في الشتات/ بلد مجزأ فعلياً/ انقطاع جغرافي بين الأسر/ تداخل هويات إقليمية جديدة. في هذه الظروف، يقدّم المنتخب السوداني “نسخة مصغّرة” من وطن متخيل:

علم… قميص… نشيد… انتصار… هتاف.

هذه الرموز تعمل كمحفّزات عميقة للهوية الوطنية، حتى حين يكون الوطن نفسه محروماً من الاستقرار. فالملعب يصبح الوطن المؤقت. طقساً لإعادة إنتاج سودانية “صافية” وغير مثقلة بصراعات الداخل. هو مساحة يقول فيها الناس لأنفسهم:

“هذا هو السودان الذي نتمسك به… لا السودان الذي دمّرته الحرب.”

والرياضة تقدم هذه العناصر كلها:

  1. بنية “نحن مقابل هم”: فريقنا مقابل الفريق الآخر، علمنا مقابل علمهم.
  2. مشاعر جماعية متزامنة: نعيش الفوز أو الهزيمة معاً، مما يولّد ما سمّاه دوركهايم “الانتشاء الجمعي”.
  3. رموز بصرية: الأعلام، الألوان، الهتاف، النشيدكلها أدوات هوية وطنية.
  4. سرديات وطنية: “المنتخب يمثل الشعب”، “نحن Resilient منيعون”، “هذه لحظتنا”. بالإضافة إلى التضخيم الإعلامي الذي يحول المباريات إلى دراما وطنية كاملة.

تظهر الأبحاث أن البطولات الكبرى تزيد الشعور بالوحدة الوطنية حتى وسط الأمم المنقسمة. كما من الملاحظ أن الجاليات في الخارج تتفاعل وطنياً بقوة خلال المباريات أكثر من أي مناسبة أخرى. فالرياضة تعيد بعث الذاكرة الجمعيةسواء كانت مجداً أو ألماً وطنياً. ثم تتمدد لتشكل حاضرا آنيا، عاطفيا، آمنا لإعادة تخيّل الوطن، خاصة حين يكون الوطن في أزمة. ففي النزوح والاغتراب، تصبح الرياضة وطناً مؤقتاً يمكن اللجوء إليه.

السودان و”هوية تحت الضغط”: كيف نقرأ ما حدث داخل وخارج الملعب من منظور نظرية الهوية الاجتماعية؟

تشرح نظرية الهوية الاجتماعية (لتاجفل وترنر) لماذا تثير الرياضة هذا القدر من الانتماء، الفخر، وحتى التوتر. والفكرة الأساسية هي أن الإنسان بحاجة عميقة للانتماء إلى مجموعات، وهذا جزء من تكوينه النفسي. نستمد جزءاً من تقديرنا لذاتنا من انتمائنا إلى جماعات معينة (العائلة، القبيلة، الوطن، النادي). نصنّف أنفسنا مباشرة: “نحن مشجّعو السودان.” “هؤلاء هم الفريق المنافس.” فيتوضّح الحد الفاصل بين “نحن” وهم”. ثم يظهر التماهي الاجتماعي، حين نربط أنفسنا بالجماعة: “أنا سوداني → فوز السودان هو فوزي، وخسارته تؤلمني.” لذلك تصبح المباراة حدثاً عاطفياً عميقاً. ثم تأتي المقارنة الاجتماعية حيث نقارن جماعتنا بالجماعات الأخرى. نبحث عن تمايز إيجابي: شعور بأن جماعتنا مميزة، صامدة، وذات قيمة. الرياضة تسمح بهذه المقارنة بشكل رمزي وآمن. لماذا هذا مهم؟ تشجيع المنتخب يصبح جزءاً من الحفاظ على قيمة الذات. والهتاف الجماعي يخلق اندماجاً الهوية محوره، حيث يشعر الفرد بأنه واحد مع الجماعة. يشتد هذا التأثير عندما تكون الهوية الوطنية مهددة (حرب، انهيار سياسي، تهجير). لهذا كانت مشاهد السودانيين في قطر خلال الحرب ليست تشجيعاً لكرة القدم فقط، بل ترميم لهوية مجروحة.

 لماذا تقوى هذه الديناميكيات أثناء الحرب والنزوح؟

في أوقات الانهيار الوطني، يعاني الناس من: فقدان السيطرة/ تهديد الهوية/ تشتت المجتمع/ صدمة جماعية/ مؤسسات منهارة/ رواية وطنية مضطربة. لذلك تصبح الرياضة: وطناً بديلاً/ مساحة يستعيد فيها الناس “نحن” / فرصة لكرامة رمزية/ منصة آمنة للتعبير عن المشاعر/ لحظة يتذكرون فيها أن الوطن ما زال حياً فيهم. هذا ربما يفسّر لماذا كان السودانيون في قطر يهتفون بصوت أعلى، وكأنهم يتمسّكون بما تبقّى من الوطن.

عبر التاريخ، لعبت الرياضة هذا الدور المزدوج: ترفيه على السطح، وشريان حياة اجتماعي في العمق. ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً، شُجّعت كرة القدم وبقية الألعاب الجماهيرية؛ لأنها كانت ترفع معنويات المدنيين، وتعيد نسج الروتين الجماعي الذي دمّرته الحرب. كان الملعب والإنشاد بمثابة جزر صغيرة من الطبيعية وسط الفوضى. وفي زمن الصراعات الحديثة، لم يفقد الملعب بعدُ دوره السياسي والنفسي.

مشهد السودانيين في قطر يعكس أنماطاً موثقة في تجارب شعوب كثيرة. فقد ظلّت الجاليات السورية، رغم الشتات والتهجير، مرتبطة ارتباطاً عميقاً بمنتخبها الوطني، كوسيلة للحفاظ على الهوية والذاكرة. وفي بوروندي ودول أخرى، استُخدمت كرة القدم خصوصاً بمشاركة الجاليات كأداة لبناء السلام وترميم العلاقات الاجتماعية. هذه ليست حالات استثنائية؛ إنها تعبير عن الطريقة التي يستخدم بها البشر الطقوس الجماعية لتأكيد الذات والهوية والاستمرار عندما ينهار كل ما حولهم.

يفسّر لنا علم النفس الاجتماعي لماذا يبدو الهتاف أحياناً كأنه فعل مقاومة. حين تُهدَّد هوية الناس أو انتمائهم الوطني، يشتد تمسّكهم بالجماعة. تقول دراسات الصدمة الجمعية إن المجتمعات المجروحة تحتاج إلى طقوس صغيرة للاستمرار، كالغناء/ الهتاف/ التجمعات/ الانفعالات المشتركة. هذه ليست تسلية، بل تنظيم انفعالي جماعي (Collective Emotion Regulation). بالنسبة للسودانيين، تأتي لحظة الهدف كفاصل بين ألمين، كتنفّس جماعي وسط الاحتراق، كقول خفي:

“ما زلنا هنا… لم ننتهِ بعد.” الفرح هنا ليس إنكاراً للكارثة، بل هو مساحة مؤقتة للحياة داخل طوفان الموت. الغناء، ارتداء الأعلام، التشجيع العلني، كلها طرق يُعاد بها تثبيت الـ “نحن”. يصبح الهتاف حدّاً رمزياً يقول: نحن ما زلنا هنا.. لم ننته بعد..

وفي تلك الطقوس شيءٌ من العلاج. فالغناء الجماعي والإيقاع المشترك ينظّمان العاطفة، ويخفّفان العزلة، ويسمحان بالتعبير عن الحزن والقلق ضمن مساحة آمنة. في هذا الاندماج الصوتي، تتشكّل لحظة يشعر فيها الجميع أنهم أقل عزلة، وأكثر قدرة على الاحتمال. ثم إن لهذه التجمعات آثاراً عملية أيضاً. فالمدرج المليء بالمشجعين السودانيين في ملعب خليجي هو شكل من أشكال الظهور العام؛ تُلتقط صورة وتنتشر، حاملة رسالة إلى العالم بأن الحياة السودانية بطموحاتها وكرامتها ما زالت تتحرك رغم الحرب. هذا الظهور قد يفتح أبواباً: نحو تعاطف شعبي، أو انتباه إعلامي، أو فرص للدعم الإنساني والسياسي. ويؤكد الباحثون في دراسات الرياضة والهوية أن مثل هذه اللحظات يمكن استثمارها بذكاء في التعبئة المجتمعية وبناء السلام.

لكن قراءة الأمل في هذه الأصوات لا تعني تجاهل الحقائق. فالتضامن الرياضي ليس بديلاً عن الأمان ولا عن الحلول السياسية. ولكنه موردٌ نفسي وثقافي، يبدّد اليأس ويذكّر الناس بقدرتهم على الفعل والانتماء. بالنسبة للمنظمات الإنسانية وصنّاع القرار والقيادات المجتمعية، فهم هذا المشهد يعني أمرين: حماية المساحات الآمنة التي تُمارَس فيها هذه الطقوس، واستخدامها بحكمة للمساندة النفسية، وتبادل المعلومات، وجمع الموارد، وبناء التضامن السلمي.

عندما نضع ما حدث في قطر داخل إطار الأدبيات النفسية والاجتماعية، نكتشف أن السودانيين لم يكونوا “يحتفلون” وحسب…

بل كانوا يمارسون واحداً من أعقد وأعمق ردود الفعل الإنسانية: الدفاع عن هوية مهددة، استعادة وطن متخيل، استرجاع ذكريات مشتركة، تنظيم الألم الجماعي، وصناعة مساحة صغيرة للحياة وسط حرب تريد مصادرة الحياة نفسها.

بمعنى آخر:

ليس الاحتفال نسياناً للوطن… بل محاولة لإنقاذه داخلنا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.