

هل قتل البلابسة قصيدة السلام؟
عبدالله برير
في خضمّ ليل الحرب البهيم الذي أسدل ستائره الدامية على خارطة الوطن، يخالجنا سؤالٌ جارح كشظية، ومُرّ كطعم الفجيعة: هل خفت صوت السلام في السودان وانحنى مكسوراً لعاصفة الحرب العاتية؟
لم يعد المشهد مجرد صراع مسلح، بل هو انكسار للروح، وتراجع مريع لمشاريع “غناء المحبة” وتقبل الآخر. لقد توارت تلك الكلمات التي كانت تبني الجسور، لتحل محلها فوهات البنادق التي تحفر القبور. ومع استعار أوار هذه الحرب المجنونة، يبدو أن تيار الكراهية والعنصرية قد انتصر مؤقتاً، مبتلعاً في جوفه تيار الحياة، ومفسحاً المجال لثقافة “البلابسة” ومفردات السحق والمحق.
يا للهول.. هل ابتلع هذا الشعب الطيب طعم الحرب المسموم، فباتت حلوقهم مُرّة بعلقم الموت، وأرواحهم ملوثة بوجبات صانعي “الكباب البشري” الذين يقتاتون على الأشلاء؟
نتلفت حولنا بقلوب واجفة، لنسأل: أ ماتت الكلمة الداعية للسلام بموت أربابها؟ هل ووري “فن المقاومة” الثرى حينما ترجل الفرسان؟
رحل محمد وردي، فرعون الغناء الذي علمنا كيف “نصبح كتلة صمود”، ورحل مصطفى سيد أحمد الذي غرس فينا “معنى أن نغني”، وغاب محمد الأمين والكابلي..
ماتت الحبال الصوتية لدى النور الجيلاني الذي غنى فيفيان يا إخواني جنوبية، ليحيا صوت الكراهية ويموت قبول الآخر ..فهل غابت مع رحيل وصمت كل هؤلاء البوصلة؟ هل انتحرت قصيدة السلام يوم أن كفّ قلب حُميد عن الخفقان، ويوم أن ودّعنا القدّال، وقبلهم شريان الشعب محجوب شريف والعملاق هاشم صديق؟
وكأن الساحة قد خلت إلا من النعي.. فحتى الشعراء الباقون على قيد القصيدة، مثل أزهري محمد علي وطلال دفع الله وقاسم أبو زيد، باتوا يقاتلون “بنعومة” الحزن لا بشراسة الأمل، وكأنهم أيتام على مأدبة اللئام بعد رحيل الآباء المؤسسين للوعي.
لقد “تيتم” الغناء الرصين، وباتت الأصوات المنادية بالحياة تلك المحاولات الخجولة من فنانين قابضين على الجمر مثل نانسي عجاج، منى مجدي، عمر جعفر وهاني عابدين تبدو وكأنها “نشاز” مقدس وسط جوقة المغنواتية الداعين للدم، الكورس الجنائزي الذي لا يطرب إلا لصوت الرصاص.
أما القيثارة الصامدة، أبو عركي البخيت، فقد بحّ صوته وهو ينادي وحيداً في برية الصمت، كأنه نبيّ خذله قومه، يصرخ بالسلام فلا يرجع إليه الصدى إلا محمولاً على دخان الحرائق.
هل تناسى هذا الشعب “أكتوبر الأخضر”؟ هل جفّ في ذاكرتهم ” ما طالما بحرك في مي”؟ أين ذهبت تلك الأناشيد التي كانت تهز الجبال حباً لا حرباً؟
اليوم، ما تبقى من فنانين وشعراء شباب، وجدوا أنفسهم أمام مقصلة التخوين. لمجرد أنهم دعوا لوقف نزيف الدم وإعلاء شأن الحياة، شُنت عليهم حملات مسعورة، ونهشتهم أنياب التخوين والعمالة، حتى توارى بعضهم خلف جدران الخوف، خشية على لقمة العيش أو خوفاً من بطش الغوغاء. بل والمفجع أن البعض تحول تحت وطأة الضغط أو الغواية إلى أبواق في معسكرات الحرب، يذكي النار بدلاً من إطفائها.
لقد تآمرت حتى التكنولوجيا على إنسانيتنا؛ فخوارزميات “الفيسبوك” ومواقع التواصل تضج بترندات “الفتك والمتك والبل”، تغرق آذان الشعب في مستنقع الدماء، وتخلق واقعاً افتراضياً موازياً لا يرى في الآخر إلا عدواً يجب إفناؤه.
ولكن.. يبقى في الروح رمق، وفي القلب سؤال يرفض الموت: هل يعود ذلك الزمن؟ الزمن الذي غنى فيه السودانيون بيقين الأولياء:
“مكان الطلقة عصفورة.. ومكان السجن مستشفى”
هل سنعود يوماً لننشد مع “حميد ومصطفى ” بملء حناجرنا، حين ينجلي الدخان وتعود الطيور لأعشاشها:
“يا بلدي يا فردة جناحي التاني.. وقت الناس تطير لعالمها”
إنها معركة الوعي الأخير، فإما أن ننتصر للعصفورة والمستشفى، وإما أن نغرق جميعاً في طوفان “البل” والدم.
المصدر: صحيفة التغيير
