فشلت الجزائر في استثمار المؤتمر الدولي حول تجريم الاستعمار في إفريقيا، الذي احتضنته العاصمة الجزائرية بحر هذا الأسبوع، بعد عجز دبلوماسيتها عن تمرير أي إشارة إلى نزاع الصحراء المغربية ضمن “إعلان الجزائر” الختامي؛ إذ لم تفلح الجهود الحثيثة للوفد الجزائري خلال أشغال المؤتمر عن إقحام الملف في أروقة النقاشات المتعلقة بالعدالة التاريخية والذاكرة الاستعمارية.
وأكد البيان الختامي للمؤتمر، الذي شاركت فيه وفود من مفوضية الاتحاد الإفريقي والبرلمان الإفريقي وممثلون عن منطقة الكاريكوم إلى جانب خبراء وأكاديميين، تركيزه حصريا على قضايا الإرث الاستعماري والجرائم المرتبطة به، من دون الخوض في أي نزاع ذي طبيعة سياسية أو إقليمية، كما ساهم هذا التوجه في إبطال محاولات الجزائر استغلال المؤتمر لإعادة طرح روايتها حول النزاع الإقليمي المفتعل المرتبط بالصحراء المغربية.
وعكس “إعلان الجزائر” اختيارات واضحة؛ إذ ركز على تجريم الاستعمار وجرائم الرق والترحيل والنهب الثقافي، ودعا إلى تعزيز آليات العدالة التعويضية بالقارة الإفريقية، إلى جانب تثمين الجهود الدولية الداعمة لرد الاعتبار للشعوب المتضررة. كما أبرز دعم المشاركين للقضية الفلسطينية ضمن إطارها المعروف، من دون أي ربط أو تلميح إلى ملفات أخرى حاولت الجزائر إدراجها وواجهتها الوفود المشاركة بالرفض القاطع.
وبهذا تكون أشغال المؤتمر قد طُويت دون تحقيق هدفها الرئيسي بإقحام نزاع الصحراء في وثيقة رسمية صادرة عن محفل دولي وقاري، كما كشف الحدث محدودية تأثير الدبلوماسية الجزائرية داخل الاتحاد الإفريقي، مقابل تزايد الالتزام القاري بالمرجعيات القانونية التي تحدد مجلس الأمن الأممي إطارا حصريا لمعالجة هذا الملف.
تعليقا على هذا الموضوع، قال عبد الفتاح البلعمشي، رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، إن الجزائر أصبحت اليوم تصطدم بواقع جديد يحدّ من قدرتها على الدفع بأطروحتها بشأن نزاع الصحراء، بعدما تبلور فهم دولي متجدد للطرح الوطني المغربي وأساسه السياسي والقانوني والدبلوماسي من خلال إقرار مجلس الأمن الدولي بوجاهة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية في قراره الأخير رقم 2797.
وأضاف البلعمشي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الصورة التي سعت الجزائر إلى تقديمها في مواجهة الحقوق التاريخية والسيادية للمملكة، خصوصا في أقاليمها الجنوبية، لم تعد تجد الصدى نفسه كما كان في السابق، نظرا لما تحقق من تطورات ميدانية ومؤسساتية تُعزّز الموقف المغربي.
وسجل المحلل السياسي ذاته أن الزخم الذي كانت تراهن عليه الجزائر قبل سنوات لم يعد متاحا اليوم، بحكم تغير مواقف العديد من الدول التي لم تعد مستعدة للدخول في مواجهات مباشرة مع المغرب، خاصة داخل المنتديات الدولية التي تُخصص للنقاش حول الأقاليم الخاضعة للاستعمار.
وتابع المتحدث بأن الدول المشاركة في مثل هذه اللقاءات تفضّل النأي بنفسها عن أي مقاربة تستهدف التشويش على سيادة المغرب، موردا أن “إعلان الجزائر” الأخير يعكس بوضوح هذا التحول، بعدما تجنّب الخوض في نزاع الصحراء رغم محاولات الدبلوماسية الجزائرية المتكررة.
وأوضح الخبير في الشؤون الدبلوماسية أن الدبلوماسية الجزائرية لم تعد قادرة على اعتماد الأساليب التقليدية ذاتها في مواجهة المغرب، بالنظر إلى بروز مواقف دولية جديدة ومتوازنة تُقرّ بوجاهة الطرح المغربي ومبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي.
وخلص البلعمشي إلى أن الجزائر مطالَبة اليوم، وبقدر كاف من الشجاعة السياسية، بالانخراط في الدينامية الجديدة التي يعرفها الملف، وإبداء استعداد فعلي للتفاوض وفق المبادرة المغربية باعتبارها الإطار الوحيد المنسجم مع التحولات الإقليمية والدولية.
من جانبه، أكد عبد الوهاب الكاين، رئيس منظمة “أفريكا ووتش”، أن المؤتمر الدولي حول تجريم الاستعمار في إفريقيا، الذي احتضنته الجزائر ما بين 30 أكتوبر و1 نونبر، كشف حدود الخطاب الرسمي الجزائري، رغم محاولاته توظيف هذا المحفل الإفريقي للوصول إلى موقف قاري موحد بشأن العدالة التاريخية لشعوب إفريقيا التي عانت من العبودية والاسترقاق وجرائم الاستعمار، لافتا إلى أن “الجزائر سخّرت إمكانيات مالية ولوجستية ضخمة لإنجاح أشغال المؤتمر، وافتتحت جلساته الرفيعة بخطاب مطوّل لوزير خارجيتها أحمد عطاف في محاولة لوضع الحضور في سياق يخدم توجهاتها السياسية والاستراتيجية”.
وأوضح الكاين، ضمن تصريح لهسبريس، أن الجزائر سعت، عبر خطاب عطاف، إلى كشف ملامح “استراتيجية جديدة” تهدف إلى تعزيز التموقع الإقليمي والدولي بعد سلسلة انتكاسات، أبرزها فشل الانضمام إلى تجمع “البريكس”، وارتفاع منسوب التوتر مع فرنسا إثر تبنيها موقفا أكثر توازنا من نزاع الصحراء، فضلا عن ميل المجتمع الدولي، وعلى رأسه مجلس الأمن، إلى مقاربة قائمة على الواقعية والعقلانية لمعالجة النزاعات العالقة، وهو ما تجلى بوضوح في القرار 2797 الذي أكد قابلية مبادرة الحكم الذاتي المغربية للحل.
وأضاف أن خطاب الوزير الجزائري حمل مفارقات عديدة؛ إذ جمع شخصيات تاريخية وقضايا وأهدافا متفرقة ضمن قالب خطابي واحد، في محاولة لإظهار الجزائر كقوة محورية قادرة على قيادة قرارات سياسية حاسمة على المستوى القاري، مستندة في ذلك إلى شعار الاتحاد الإفريقي لهذه السنة حول العدالة للأفارقة وجبر الضرر، مشيرا إلى أن “هذه المقاربة تُخفي سعيا واضحا للترويج لدور ‘ريادي’ مزعوم للجزائر في الدفاع عن قضايا التحرر، رغم أنها تفتقر لانسجام منطقي يبرّر إدراج أسماء وشخصيات ورموز كعبد القادر بن محيي الدين جنبا إلى جنب مع مانديلا ولومومبا وكابرال ونكروما وبورقيبة وغيرهم”.
وأبرز نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية أن مجموعة من الأسئلة المشروعة تفرض نفسها، من بينها سبب تقديم نزاع الصحراء على القضية الفلسطينية في خطاب عطاف، وكأن الأولى قضية هامشية أو محلية لا ترقى لاهتمام المشاركين، أو سبب إدراج مآسي شعوب الهيريرو والناما والإبادات الجماعية في أنغولا وموزمبيق ومدغشقر ضمن “خلطة” خطابية لا تنسجم مع واقع القضية، مؤكدا أن “هذا التداخل الخطابي يثير الشك حول صدقية التزام الجزائر بقضايا التحرر، ويُرجّح كونه تحايلا ظرفيا لخدمة أطروحات البوليساريو ومحاولة التأثير على التوازن السياسي والدبلوماسي داخل المنتديات القارية والدولية”.
وبخصوص مسعى الجزائر، أورد الكاين أن الحديث عن الانتهاكات الاستعمارية يستوجب، قبل كل شيء، مواجهة الذاكرة القريبة لضحايا الجرائم المرتكبة داخل الجزائر نفسها، خصوصا على يد المؤسسة العسكرية ضد مواطنين طالبوا بالحرية وحقوقهم السياسية، فضلا عن تطلعات منطقة القبايل للإنصاف والاعتراف بخصوصياتها الثقافية، مسجلا أن “التلاعب بالمفاهيم ومحاولة استثمار شعار محاربة الاستعمار هدفه الحقيقي هو تعويم المقتضيات الواردة في قرار مجلس الأمن 2797 وتجريدها من أثرها السياسي”.
وذكر أن محاولات الجزائر إعادة إدراج قضية الصحراء داخل فضاءات التنابز السياسي والدبلوماسي تأتي في سياق تعقّد العلاقات المغربية الجزائرية وتراكم التوترات المبنية على خلافات تاريخية ورهانات إقليمية وطموحات توسعية تدفع الجزائر إلى أي تحرك من شأنه إضعاف المغرب، خاصة بعد قطع العلاقات في غشت 2021 وتصعيد الحرب بالوكالة عبر جبهة البوليساريو، في تجاهل تام لتطلعات الصحراويين إلى الأمن والسلم ولمّ الشمل منذ خمسة عقود.
وفي هذا السياق، اعتبر عبد الوهاب الكاين أن استراتيجيات التضليل التي تعتمدها السلطات الجزائرية ليست سوى سياسة ممنهجة تهدف إلى خلق انطباع بوجود رسائل سياسية “قوية” تستند إلى قيم التحرر، بينما تروم في الواقع التلاعب بالرأي العام الجزائري والإفريقي والدولي، في قضية لا تتجاوز في جوهرها حدود الحفاظ على السلامة الإقليمية للمملكة واستكمال وحدتها الترابية، مقابل محاولات جزائرية يائسة لإقحام ملف إنهاء الاستعمار في تربة ترفض بتاتا مشاريع التقسيم وتفتيت الأوصال.
المصدر: هسبريس
