
البرهان.. بين المفاوضات في الظلام وتهديدات في العلن
حسب الرسول العوض إبراهيم
لم تهدأ وتيرة التطورات على الساحة السياسية السودانية بل أخذت تتدحرج ككرة ثلج خصوصاً في ما يتعلق بمسار الحرب الدائرة في البلاد. فقد شهدت الأيام الماضية أحداثاً سياسية وعسكرية كشفت حجم العبث الذي يحيط بالمشهد ككل، بدءاً من سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة بابنوسة ووصولاً إلى موجة جديدة من الضغوط الدولية على سلطة بورتسودان.
في هذا السياق جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الذي ظهر بجانب الرئيس ترامب مؤكداً أن ملف السودان يتولاه الرئيس مباشرة. التصريح لم يكن عابراً بل حمل رسالة بأن واشنطن تستعد لاتخاذ خطوات أكبر ضد السلطة الحالية، خاصة بعد التلويح بورقة السلاح الكيماوي والتهديد الصريح بضرورة الاعتراف بوجوده والتوقف عن استخدامه.
وبالتزامن مع ذلك برزت من جديد قضية القاعدة الروسية على البحر الأحمر، ورغم أن الفكرة قديمة إلا أن إعادة طرحها الآن تعكس تصاعد الضغط الأمريكي على بورتسودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن روسيا لم تكن يوماً متحمسة لإنشاء قاعدة عسكرية داخل السودان ولو كانت كذلك لاستجابت لعرض البشير سابقاً. فموسكو تمتلك مركزاً لوجستياً في إريتريا يمكن تحويله بسهولة إلى قاعدة عسكرية دون الحاجة إلى الدخول في تعقيدات الساحة السودانية ولديها ما يكفيها في حربها مع أوكرانيا.
غير أن سلطة بورتسودان تعاطت مع الملف بطريقة مختلفة تماماً فهي بعكس البشير الذي كان يعرض، باتت في وضع القبول والبحث عن أي مشترٍ. فقد أصبح عرض المواقع الاستراتيجية السودانية وكأنها سلعة معروضة في المزاد بهدف حماية سلطة متآكلة أكثر من كونه تعبيراً عن سياسة دولة. وقد ظهر هذا النهج جلياً في واقعة عرض وزير خارجية بورتسودان والوفد المصاحب له رهن ثروات السودان لواشنطن مقابل عدم التدخل والضغط لإنهاء الحرب، وهو موقف قوبل بسخرية أمريكية علنية، وعكس حالة من الاستهتار وفقدان المسؤولية.
وعلى صعيد معسكر الحرب تفاقمت التوترات الداخلية بعد أن تبيّن للبرهان أن جهات داخل الجيش تعمل بمعزل عنه وتسعى لتضليله. وزاد الأمر تعقيداً حين كشف المبعوث النرويجي عن عدم وجود ورقة ثانية وأخيرة مقدمة من مسعد بولس مبعوث الرئيس ترامب من الأساس، رغم أن البرهان استند إليها في تصريحاته الأخيرة، ما أكد له أن الحركة الإسلامية تتصرف خارج نطاق سيطرته.
هذه التطورات دفعت البرهان إلى التفكير في إدارة الأزمة بمفرده بعيداً عن الحركة الإسلامية وقيادة الجيش، خاصة مع تداول معلومات تفيد بأنه يجري مفاوضات منفردة مع دول الرباعية ووافق على تنفيذ كل ما جاء في مقترحاتها مقابل ضمانات شخصية.
إلا أن هذه التحركات فجرت انقساماً حاداً داخل الحركة الإسلامية ذاتها. فقد انقسمت إلى مجموعتين، إحداهما تيار إبراهيم محمود الذي يرى ضرورة حماية الحركة من تبعات القرارات الدولية وتجنب مواجهة مفتوحة معها، وتيار علي كرتي الذي يدفع نحو المضي بالحرب إلى آخر مدى رافضاً أي تسوية قد تضعف نفوذ الحركة.
ومع زيادة التباعد تحدثت تسريبات عن تفاهمات بين قيادات الحركة وياسر العطا لإزاحة البرهان من المشهد بعد فقدان الثقة فيه وتخوفها من أن يقدم على تنازلات كبيرة للرباعية تشبه عملية “البيع السياسي”.
وسط هذا الصراع المتشابك داخلياً وخارجياً يجد السودان نفسه واقفاً على حافة مستقبل مجهول، وبين تسوية قد تنهي الحرب وانفجار جديد قد يفتح باباً لفوضى أعمق، يظل الشعب وحده من يدفع ثمن صراعات السلطة.
* كاتب ومحلل سياسي
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير
