في ظل تسارع التحولات الرقمية وظهور الذكاء الاصطناعي، أكد خبراء نفسيون ومتخصصون في طب العمل أن الضغط الذهني والإرهاق المهني ليسا مجرد ظواهر عابرة، بل هما إرث معقد يتطلب من الشركات تبني مقاربات نفسية شاملة، مع موازنة أدوات الذكاء الاصطناعي بفترات الراحة الإلزامية. جاء ذلك خلال مائدة مستديرة نظمت بمناسبة الدورة الثانية عشرة لليوم الدراسي حول الصحة، والذي نظمه صندوق التعاضد المهني المغربي.

وأكدت الدكتورة إيمان كندلي، طبيبة نفسية ورئيسة الجمعية المغربية للصحة النفسية (AGH)، أن النقاش حول الذكاء الاصطناعي لم يعد يقتصر على الحمل المعرفي، بل أصبح يتسم بالقلق والتوجس على “الصعيد الوجودي للإنسان”، موضحة أن القلق، رغم كونه قد يشكل محركا إيجابيا للابتكار، يتحول إلى عامل سلبي ومشلول يعيق تحقيق الأهداف عندما يصبح مفرطا وغير منتج.

وأشارت الدكتورة كندلي إلى أن الحمل الذهني والضغط النفسي في بيئة العمل هما “إرث من المجتمعات ما بعد الحديثة”، التي خلقت تعارضا بين مزايا التقليد ومساوئ الحداثة. وفي هذا السياق، شددت على أهمية التدخل المبكر للشركات في كشف علامات الإرهاق المهني أو الملل، وذلك عبر متابعة شخصية الفرد الأساسية.

وأكدت أن الأفراد ليسوا كائنات منفصلة، بل مجموعات شخصيات تتفاعل داخل بيئة العمل، محذرة من أن الشخصيات الاعتمادية أو الباحثة عن الإطراء قد تمثل خطرا على التوازن النفسي إذا تجاوزت واجباتها، مما يقود إلى الإرهاق. وعليه، نوهت كندلي بأهمية مبادرات الدعم النفسي مثل خلايا الاستماع وصالات اليوغا، التي توفر شعوراً بالطمأنينة حتى في حال عدم استخدامها.

كما سلطت الدكتورة كندلي الضوء على أهمية “الحق في الاستعادة” (déconnexion)، كمفهوم قديم يعود إلى سقراط، مشيرة إلى أنه يشمل الاستراحة المعرفية بعيداً عن الشاشات لتجنب تأثير الضوء الأزرق على الدماغ والنوم والعواطف. واعتبرت أن الذكاء الاصطناعي، رغم كونه أداة مساعدة، يجب موازنته مع فترات الاستراحة، حيث أظهرت الدراسات أن العمل المستمر دون توقف يؤدي إلى اضطرابات نفسية خطيرة على المدى الطويل.

من جانبها، أكدت لبنى الطهري، أستاذة مشرفة في طب العمل، أن معالجة قضايا الصحة النفسية في بيئة العمل أصبحت “ضرورة ملحّة” في ظل التحولات المتسارعة في عالم الشغل. وأوضحت الطهري أن الشعور بالضيق النفسي غالباً ما ينتج عن اختلال التوازن بين متطلبات العملسواء كانت جسدية أو ذهنيةوبين الموارد المتوفرة لدى الأجراء، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر.

واستعرضت الطهري ثلاثة نماذج علمية رئيسية لفهم مصادر الضغط النفسي المهني. أولا، نموذج كاراسيك (Karasek)، الذي يركز على أن التوتر ينتج عن الجمع بين ارتفاع الطلبات المهنية وانخفاض السيطرة على المهام، مشددة على أن الدعم الاجتماعي يلعب دوراً حاسماً في التخفيف من هذا التوتر.

ثانياً، نموذج سيغريست (Siegrist)، الذي يركز على عدم التوازن بين الجهد المبذول والمكافآت المستلمة، سواء كانت مالية أو معنوية، مؤكدة أن غياب هذا التوازن يتسبب في إحباط نفسي قد يتطور إلى احتراق مهني. وثالثا، النموذج المعاصر للموارد، الذي يشير إلى أن نقص الموارد البشرية أو التقنية يزيد من الضغوط، خاصة في سياقات العمل عن بعد، حيث يختلط المجال المهني بالحياة الشخصية، إلى جانب ظاهرة الإفراط في المعلومات (Infobésité).

وشددت الطهري على أهمية تبني آليات عملية لتقييم مستويات التوتر والاحتراق النفسي داخل بيئة العمل، معتبرة أن هذه الأدوات ضرورية لتحسين ظروف الشغل، وبناء بيئات مهنية صحية تعزز الأداء والرفاه النفسي للعاملين.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.