قراءة في مقال الصحفية جانين دي جيوفاني “Documenting War Crimes in Sudan Begins Now”

في ظل واحدة من أعنف الحروب بالوكالة التي يشهدها السودان منذ الاستقلال، يضع تقرير نشرته الصحفية والباحثة الأميركية المخضرمة جانين دي جيوفاني في مجلة “فورين بوليسي” بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إطارا جديدا لفهم ما جرى ويجري من فظائع وجرائم وحشية في عاصمة شمال دارفور، على خلفية اجتياحها بعد حصار مرير دام قرابة العامين، مسلطا الضوء على الطفرة الهائلة في توثيق جرائم الحرب، وعلى التناقض الصارخ بين وفرة الأدلة وغياب الإرادة والعدالة الدولية في معاقبة الجاني المعروف.

انفجار الأدلة.. وغياب الصحفيين

تقول دي جيوفاني إن الأشهر الأخيرة شهدت تراكما غير مسبوق لأدلة بصرية وجغرافية تظهر قتلا جماعيا، وإعدامات ميدانية، وعمليات حرق لقرى بأكملها، خصوصا في دارفور. إضافة إلى مقابر جماعية ومحاولات لمحو آثار هذه الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت.

هذا الانفجار في المواد المصورة والوثائق يأتي في وقت بات من المستحيل تقريبا على الصحفيين والباحثين الوصول إلى الميدان، وتعذر أجهزة العدالة الدولية بصعوبة الوصول للأدلة، أو بعدم وجود وثائق تعين في توجيه الاتهام وتساعد في الوصول للجناة، مما جعل الأدوات مفتوحة المصدر (OSINT) الأقمار الصناعية التجارية، مقاطع الفيديو المحلية، التحليل الجغرافي والزمني هي المصدر الأساسي لمعرفة ما يجري، وهذه واحدة من إيجابيات التطور التقاني والسيبراني في توثيق الجرائم المتصلة بالإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وجرائم الحرب، بما فيها العنف الجنسي والجنساني.

دارفور من جديد.. الجريمة تتكرر لكن أمام عيون العالم

تكشف الصور الفضائية والتقارير الرقمية نمطا منظما من التطهير العرقي واستهداف مجموعات إثنية بعينها، في
مشهد يعيد إلى الأذهان أهوال أبريل/نيسان 2003، لكن هذه المرة أمام عيون العالم وسمعه وبدقة عالية.
وتؤكد الكاتبة أن ما يحدث الآن في دارفور قد يكون “أسوأ موجة قتل جماعي منذ حرب البوسنة”، وأن تراكم الأدلة يقطع الطريق على أي محاولة للإنكار، أو وصفها بالتصرف الفردي بحسبانها جريمة ممنهجة.

المحققون الجدد: ثورة التحقيقات الرقمية

مع غياب المنظمات الدولية الحقوقية والعدلية والأمم المتحدة، برزت مجموعات التحقيق مفتوحة المصدر كفاعل أساسي في توثيق الجرائم، وهي تجربة جديرة بالتوقف عندها، لوضع حد لمثل هذه الانتهاكات. على خلفية ما قام به المركز البحثي التابع لجامعة ييل الأميركية.

هذه المجموعات معظمها من متطوعين محترفين في الجغرافيا والذكاء الاصطناعي والتحليل الجنائي أصبحت تقوم بما كان يقوم به محققو جرائم الحرب، لكن عبر الإنترنت، وبسرعة تفوق الطرق التقليدية بأضعاف، تتعامل مع بيانات لا يرقى إليها الشك.

وتشير دي جيوفاني إلى أن هذه الفرق باتت تزود الكونغرس الأميركي ومجلس الأمن والمنظمات الحقوقية والعدلية بمواد موثوقة وشديدة التفصيل، مما يجعل ملف السودان أحد أكثر ملفات الفظائع توثيقا في العالم المعاصر.

الأدلة متوفرة لكن القرار غائب

المفارقة التي يسلط عليها المقال الضوء هي أن العالم اليوم لا يعاني نقصا في المعلومات، بل نقصا في الإرادة السياسية والقدرة على الفعل، في ظل التسيييس والانتقائية على خلفية العرق والجغرافيا.

فعلى الرغم من أن الأدلة الرقمية ترسم صورة واضحة للفظائع، فإن التدخل الدولي لا يزال في حده الأدنى، فيما تنشغل القوى الكبرى بملفات أخرى كغزة وأوكرانيا، وهذا مكمن الإشارة إلى التجاهل المتعمد للأوضاع في السودان، بتدخل ممنهج بالنفوذ السياسي والمادي للتغطية على الفاعلين الأساسيين سواء كانوا مليشيا الدعم السريع أم الرعاة الإقليميين.

هذا التناقض بين معرفة الحقيقة وعجز العالم عن التحرك يعيد إلى الواجهة سؤالا قديما جديدا: ما قيمة التوثيق إذا لم يتحول إلى فعل وإجراء ملموس يحمي المدنيين ويمضي بالجناة إلى التحقيق والمحاسبة؟
من رواندا إلى السودان.. التكنولوجيا تكشف والسياسة تتجاهل

تقارن دي جيوفاني بين ما حدث في رواندا والبوسنة وبين ما يجري اليوم في السودان. في الماضي، كانت الجرائم ترتكب بعيدا عن عدسات الكاميرات، أما اليوم فإن كل قرية محروقة وكل كتلة سكانية مهجرة أو مقبرة جماعية مخفية توثق بصور عالية الجودة.

ومع ذلك، يبقى الصمت الدولي قائما، مما يجعل السودان نموذجا صارخا لعصر يعرف كل شيء لكنه لا يفعل شيئا.

نحو مرحلة جديدة من المحاسبة

تشير الكاتبة إلى أن الأدلة الحالية بدأت تستخدم بالفعل في:

إحاطة الكونغرس الأميركي.
دعم تحركات المحكمة الجنائية الدولية.
إعداد ملفات عقوبات.
الضغط على الأطراف الممولة لبعض القوى المسلحة.
رفع الوعي الحقوقي العالمي لصالح الضحايا.

ومع تراكم الأدلة، يبدو أن السودان يتجه نحو لحظة محاسبة قد لا تأتي قريبا، لكنها أصبحت لأول مرة مرتبطة برصيد هائل من التوثيق البصري والفضائي الذي لا يمكن إخفاؤه أو التشكيك فيه، فضلا على التحليل الدقيق والندوات في الأوساط الأكاديمية والمعامل ذات الطبيعة الإنسانية.
خاتمة
في جوهره، يقدم مقال “فورين بوليسي” رسالة إنسانية نوعية شديدة الوضوح: السودان يشهد جريمة واسعة النطاق، وفقا للقانون الجنائي الدولي والإنساني الدولي، وأدلتها مكشوفة وواضحة، لكن الإرادة الدولية لإيقافها ما تزال غائبة.

إنها مفارقة العصر الرقمي: التكنولوجيا تكشف الفظائع في كل لحظة، لكن السياسة لا تزال مترددة أو عاجزة في مواجهتها، لكن هذه الوضعية لن تدوم طويلا في ظل المتابعة من الأوساط الحقوقية والناشطين المهتمين وجماعات الضغط الدولية.

وبقدر ما يشكل هذا التوثيق خطوة مهمة نحو العدالة مستقبلا، فإنه يكشف أيضا هشاشة المنظومة الدولية الراهنة ومكامن ضعفها، وقدرتها المحدودة على حماية الشعوب والانصراف عنها في لحظات الكارثة.

إن المستقبل القريب قد يشهد تصاعدا أكبر في وتيرة التوثيق، وشواهد أكثر وضوحا، ما يجعل ملف السودان أحد أكثر ملفات الجرائم الدولية توثيقا في تاريخ النزاعات المعاصرة وآليات وأدوات كشفها تقنيا، الأمر الذي يحملنا لأن نبرز مثل هذه الجهود وطنيا لمصلحة الضحايا والمهتمين وأجهزتنا العدلية وأجهزة مكافحة الجريمة.. وترقية الوعي الجمعي لأسر الضحايا والمكلومين بأن دماء من مورست بحقهم هذه الجرائم البشعة، لن تفلت اليد التي كانت وراءها من العقاب، وأن من قاموا بها سيواجهون محاكم دولية تاريخية يصعب تعمية الأبصار عن أدلتها وشواهدها، أو إسقاط تهمها بالتقادم والنسيان.

 

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.