تتحدى شخصية المخلوق/الوحش في فيلم “فرانكشتاين” للمخرج غويليرمو ديل تورو المشاهد منذ اللحظة الأولى، وتدفعه إلى مواجهة أعمق أسئلة الإنسانية والحياة والموت. تتحرك الكاميرا معه بخفة الظل وثقل المعاناة، فتشعر بأن كل خطوة يخطوها تحمل صدى وحدة الإنسان وألمه المكبوت. يسائلنا الفيلم عن معنى القبول والانتماء والحنان في عالم يقسو على المختلف، ويُثير أسئلة حارقة عن المسؤولية الأخلاقية والخيانة والرحمة. يترك الحضور الجسدي للوحش أثرًا نفسيًا لا يُمحى، فهو ليس وحشًا خارجًا عن القانون، وإنما كائن يسعى لفهم ذاته ويبحث عن الضوء وسط الظلام. يلتقي الوحش بالآخرين في صمت مفاجئ وحوار متقطع، فتتعقد علاقاته ويزداد شعوره بالغربة. يقول الوحش للبروفيسور فرانكشتاين: “وُلدت في النار والظل، ومع ذلك أبحث عن الضوء والحب”. يختزل هذا القول كل صراع الإنسان مع ذاته ومع عالم يرفضه، ويجعل من الفيلم رحلة عاطفية تتجاوز الرعب لتصبح تجربة وجودية تحبس الأنفاس. وهذه سمات سينما غويليرمو ديل تورو كما في فيلم “شكل الماء”…
استحضار غويليرمو ديل تورو لرواية ماري شيلي الشهيرة في نسخة سينمائية معاصرة يكشف عن مشروع يتجاوز مجرد إعادة سرد قصة قديمة، إذ يتحول إلى تأمل إنساني وفلسفي في الخلق والمسؤولية، في علاقة الأب بابنه، وفي الهوية والإقصاء. يرى ديل تورو أن “الوحش” ليس مصدرًا للرعب فقط، وإنما مرآة لمعانٍ أعمق في النفس البشرية، تمامًا كما قال ذات مرّة إنّ مشاهدته لفيلم فرانكشتاين الكلاسيكي في شبابه ضربته كـ “صاعقة من الحمى”، لأنه رأى فيه تجسيدًا لما كان يشعر به من غربة.
البحث عن الاعتراف
انطلاق الحكاية في نسخة ديل تورو في فيلم “Frankenstein” / “فرانكشتاين” (نونبر 2025 / 149 دقيقة) لا يهدف إلى صناعة فيلم رعب تقليدي، فهو يسعى إلى خلق سرد درامي يجمع نقطتي نظر: منظور الدكتور فيكتور فرانكشتاين ومنظور الوحش. فكّر ديل تورو في البداية بصنع فيلمين لتغطية كلا الوجهتين، لكنه وجد أن جعلهما جزءًا من فيلم واحد وخلق “محور التقاء” في منتصف العمل سيمنحه قوة سردية أكبر. وهذا القرار يمنح الفيلم بنية سردية مزدوجة، تجعل الصراع بين الخالق والمخلوق أكثر إنسانية، وأكثر قربًا إلى القلب منه إلى الشكل المخيف.
تطرح نسخة ديل تورو إشكاليات كبيرة تبدأ من فكرة الخلق؛ حيث يطرح: من يملك الحق بأن يبتكر الحياة؟ وما الثمن الأخلاقي لتهديد التوازن الطبيعي؟ كما أن علاقة الأب بالمخلوق تصبح قراءة لأزمة الأبوّة والابن، محاولة للفهم والوفاق بعد ألم الخلق؛ حيث يقول المخرج إنه يروي “قصة آباء وأبناء”، ويبحث عن النهاية التي تنهار فيها الشكوى العميقة وتتجه نحو التسامح، إذ يرى أن اللحظة المحورية هي عندما يحاول الأب قتل ابنه، مما يمكّن الابن لاحقًا من رواية جانبه من القصة.
وفي ما يخص الهوية، تُحوَّل شخصية الوحش إلى كائن يشعر بالوحدة، ويفتقد الانتماء، ويطارد اعترافًا بوجوده؛ وليس مجرد كائن مُولَّد من قطع جثث، وإنما ككائن يعاني من شظايا نفسية ووجودية. هذه الرؤية تتطابق مع ميل ديل تورو الدائم نحو الوحوش التي تمثل “الآخر” البائس والمُهمَّش، كما فعل في أفلامه السابقة مثل “Pan’s Labyrinth” و”The Shape of Water”.
واختيار المخرج لشخصية ياكوب إيلوردي لتجسيد الوحش لم يكن صدفة؛ فالممثل خضع لساعات طويلة من المكياج والأطراف الصناعية ليصبح جسد الوحش، لكن التحدي الأكبر كان داخليًا. كما صرّح إيلوردي، فقد عاش عزلة شبه رهبانية أثناء التصوير، واضعًا لنفسه مفكرة خاصة من منظور المخلوق. وتلك العزلة تعكس تجربة شخصية للممثل تمثّل فكرة الولادة الجديدة، فالمخلوق في نظر ديل تورو ليس قوة خارقة فقط وإنما روح تبحث عن السلام.
أنسنة الوحش
يلتزم المخرج من الناحية البصرية والفيلمية بشغفه بالتصاميم الغوطية والجو القوطي الذي يجمع بين الجمال والغرابة، بين العلم والطقوس. وبين الماضي الفيكتوري، المختبرات المظلمة، والتأثيرات البصرية، والإضاءة المكثفة تُعيدنا إلى عصر الرعب الكلاسيكي، لكن مع إحساس حديث بالإنسانية. ويضيف ديل تورو أن تأليفه لفيلم فرانكشتاين هو تجميع “حياة كاملة” في عمله: “لا أستطيع أن أقول إن جزءًا منه جاء من هنا، وآخر من هناك”.
وترتبط الخلفية الثقافية للفيلم برومانسية القرن التاسع عشر وبقراءة معاصرة للأزمات: الشخصيات ليست رموزًا جامدة، فهي بشر كامل الألوان، يعشقون، يخطئون، يبدعون، ويتألمون. وفي الوقت نفسه، يقدم الفيلم نقدًا للتهرب من الحقيقة الساحقة، للوعود الزائفة، ولقدرة الإنسان على اللعب بدور الخالق دون تحمل تبعات خلقه، وبالتالي، ليس العمل مجرد إعادة تجسيد لرواية قديمة، فهو تأهيل للفكرة في زمن حيث التكنولوجيا والتلاعب بالهوية لا يزالان يطرحان تساؤلات محورية.
ويلتزم ديل تورو لغة درامية تجمع بين المونولوج والشحنة العاطفية، وبين الصمت والصراخ الداخلي. ويأتي الحوار بين فرانكشتاين ومخلوقه في جوهره حوارًا وجوديًا: “هل أنا بشر؟ هل لي الحق أن أعيش؟”؛ وتتردد أسئلة في أعماق كل من الدكتور والوحش، فالفيلم لا يمنح الوحش مجرد قدرة تدميرية، وإنما قدرة فلسفية ووجودية على التأمل.
ويقدم ديل تورو “فرانكشتاين” ليس بوصفه مجرد عمل فني يعيد قصة خاضتها الأجيال، وإنما كمحاولة لتجديدها: “أردت أن أجدد ما شعر به القارئ عند أول لقاء مع تلك الشخصيات قبل أن تصبح شعارات تسويق أو رسوم كرتونية”، كما قال المخرج، الذي عاش مهووسًا بالوحوش منذ طفولته، ويرى في هذا الفيلم نصًّا شخصيًا يصل إلى جوهر صراعه مع نفسـه: الخوف من الموت، الشعور بالاغتراب، والحاجة إلى الاعتراف.
وهكذا يتحول فيلم فرانكشتاين لدى ديل تورو إلى دراما فلسفية وإنسانية قبل أن يكون مأساة رعب، إلى قصة أب وابنه، إلى تأمل في الخلق والهوية، وإلى تجربة فنية تستدعي من الجمهور ليس الخوف فحسب، بل التراحم والفهم.
صراع الهوية والانتماء
تجسّد شخصية الوحش في فيلم فرانكشتاين لغويليرمو ديل تورو قلب العمل الروائي والفيلمي على حد سواء، إذ يركّز المخرج على الصراع الداخلي للبطل الذي يعيش بين الرغبة في الانتماء والشعور بالرفض المطلق. يقدّم الفيلم الوحش ليس مجرد رمز للرعب، وإنما كائنًا يملك حساسية متناهية وقدرة على التأمل، ويشكل مرآة لما يختبره الإنسان من عواطف متناقضة. يرى ديل تورو أن الوحش هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يطرح الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت والمسؤولية الإنسانية، وهو ما ينعكس في الحوار مع الدكتور: “أنا لست وحشًا، أنا إنسان يعرف معنى المعاناة” ويعبّر من خلالها عن شعور بالظلم والاغتراب العميق.
يرصد الفيلم حساسية الوحش في كل تحركاته الجسدية، حيث تتحوّل كل إيماءة أو نظرة إلى لغة جسدية تخاطب المشاهد مباشرة. يعتمد ديل تورو على الممثل جاكوب إيلوردي لنقل هذه الرقة الداخلية، بحيث يتحرك البطل بثقل جسدي يتناقض مع هشاشة روحه، وتصبح خطواته المترددة في المختبر أو بين الغابات أشبه بموسيقى صامتة تصف معاناته. يضيف الحوار اللغوي عمقًا نفسيًا للشخصية، إذ يستخدم لغة رسمية أحيانًا ولغة طفولية أحيانًا أخرى ليكشف عن خلطه بين العالم البشري والوحشي، فيقول للبروفيسور فرانكشتاين: “أنا لا أنتمي إلى هذا العالم، ومع ذلك أشعر بألمه كما لو كان لي” مما يعكس صراع الهوية والانتماء.
ويستكشف الفيلم العلاقات بين الشخصيات بطريقة دقيقة، حيث يشكّل كل تفاعل اجتماعي اختبارًا للبطل في فهم ذاته والعالم المحيط به. يتطور الحوار بين الوحش والدكتور من تبادل الاتهامات إلى محاولات صريحة للفهم والتصالح، ويصبح هذا التفاعل محورًا لإعادة تعريف معنى الإنسانية. يركّز المخرج على لحظات الصمت التي تحمل ثقلًا رمزيًا، مثل تلك اللحظة التي يقف فيها الوحش أمام المرآة ليكتشف صورته، فيبدو وكأنه يواجه الحقيقة الأولى عن نفسه، ويشير ديل تورو هنا إلى أن: “العين التي تراها المرآة لا تكذب، لكنها تؤلم” مما يمنح الفيلم بعدًا فلسفيًا يتجاوز الرعب التقليدي.
رباعيات الألم والقبول والرحمة والظلم الاجتماعي
يعالج الفيلم أبعادًا اجتماعية وسياسية من خلال المعاملة التي يتلقاها الوحش من البشر، إذ يصبح الآخر المستبطن الذي يُرفض ويُطرد، فيعكس التهميش والفجوة بين الفرد والمجتمع. ترمز هذه الإشكالية إلى الصراع بين النظام الاجتماعي والتفرد الشخصي، حيث يُظهر الوحش نفسه كضحّيّة للمعايير القاسية والمواقف المسبقة، وهو ما يتضح في قوله: “هم يرون فقط ما أنا مصنوع منه، لا ما أشعر به”. ويؤكد من خلال هذا القول أن الظلم الاجتماعي هو جزء من معاناته اليومية.
ويستثمر الفيلم أيضًا الأبعاد النفسية للوحش، إذ يُظهر كيف تتشكل شخصيته من الألم والتجارب الأولى للصدمات، ويبرز شعوره بالوحدة والعزلة كأساس لتفاعله مع العالم. تتفاعل هذه الأبعاد النفسية مع الرمزية التي يحملها، حيث يصبح كل جرح أو فقدان رمزًا للصراع الإنساني الأوسع، ويجد الوحش في هذه الرموز طريقًا لفهم نفسه ومكانه. ويقول للبروفيسور فرانكشتاين: “وُلدت في النار والظل، ومع ذلك أبحث عن الضوء والحب” ما يعكس حنينه العميق إلى القبول والرحمة.
ويقدّم الفيلم بعدًا جماليًا فريدًا من خلال تصوير المشاهد والإضاءة والتصميم، فيصبح حضور البطل الجسدي جزءًا من اللغة السينمائية. يستخدم ديل تورو الظلال والضوء لتسليط الضوء على لحظات العزلة والانكشاف، فتبدو أذرع الوحش الممتدة نحو العالم الخارجي كاستدعاء رمزي للاتصال والبحث عن الفهم. كما توظف الموسيقى التصويرية للتعبير عن التناقض بين القوة الجسدية والضعف النفسي، فتخلق إحساسًا مستمرًا بالتوتر والتوقع لدى المشاهد.
يُظهِر الفيلم أيضًا حساسية الوحش تجاه العلاقات الإنسانية من خلال التفاعل مع الشخصيات الثانوية، مثل المرأة التي يلتقي بها والطفل الذي يحاول حمايته، فيصبح البطل مرآة لكل محاولة اتصال حقيقي في عالم يرفضه. يضيف هذا السياق الاجتماعي والإنساني غنىً للنص ويعكس فلسفة ديل تورو في أن الوحش ليس عدواً بطبيعته، وإنما كائنًا مدفوعًا بالظروف والرفض.
ويربط الفيلم بين كل هذه الأبعاد ليؤسس لهوية فيلمية متميزة تجمع بين الرعب، الدراما النفسية، والجماليات الغوطية، مما يمنح العمل طابعًا أدبيًا وعمقًا فكريًا يجعل من الوحش شخصية مركبة تتجاوز كونه رمزًا للوحشية. ويؤكد المخرج أن هدفه هو أن يرى الجمهور الوحش كبطل يتصارع مع ذاته قبل أن يتصارع مع العالم، ويقول في مقابلة: “أريد أن يشعر الجمهور بنبض قلب الوحش، أن يفهم وحدته وحنينه للقبول.”
وهكذا يبرز البطل في فيلم فرانكشتاين ليس كعدو خارجي، وإنما ككائن حساس، معقد، ومتعاطف، يعكس الإشكاليات الكبرى للهوية والانتماء والخير والشر، ويجمع بين القوة الجسدية والرقة الداخلية، وبين اللغة الحادة والصمت المؤثر، ليصبح الوحش رمزًا خالدًا للتحدي الإنساني والبحث عن معنى الوجود في عالم غالبًا ما يكون قاسياً وغير منصف.
تختتم رؤية المخرج غويليرمو ديل تورو لفيلم فرانكشتاين رحلة الوحش ببوابة التأمل في الطبيعة البشرية والصراع بين الخلق والخالق والحاجة إلى الانتماء والحب والمواجهة مع العزلة والخوف من المختلف والمؤتلف. يترك الفيلم المشاهد أمام أسئلة كبرى عن الأخلاق والهوية والسلطة والرحمة وعن الحدود التي نرسمها لأنفسنا وللآخرين. ويكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانية حين تغيب المسؤولية والحوار، ويظل الحضور الجسدي واللغوي للوحش شاهدًا على وجع الكائن وعمق معاناته، ويقول المخلوق للبروفيسور: “أين الرحمة التي صنعتني لأبحث عنها وسط صخب العالم؟” فيتردد صدى هذه العبارة في ذهن المشاهد ويجعل منها دعوة لإعادة قراءة كل لحظة من الفيلم بعيون أكثر عمقًا وفهمًا، لتظل الأسئلة المعلقة عن الحياة والخير والشر والحرية تلاحقه بعد أن يغلق الستار ويصمت الصوت، ويصبح الفيلم تجربة متجددة تحرك المشاعر والفكر على حد سواء.
المصدر: هسبريس
