في الوقت الذي مازالت البطالة تتفاقم في بلادنا بشكل لافت وغير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما في أوساط الشباب حاملي الشهادات العليا، حيث أنها بلغت لدى هذه الفئة معدل 19,6 في المائة سنة 2024، في ظل قلة الفرص الملائمة لتخصصات هؤلاء الخريجين من جامعاتنا المغربية، وتفضيل معظم أرباب العمل ذوي الخبرة على حملة الشهادات الجدد، مما يعكس صعوبة إدماج هؤلاء الشباب في سوق الشغل ويشكل تحديا كبيرا بالنسبة للحكومة، ما لم تبادر إلى تحفيز الاستثمار وخاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة، دعم المقاولات الصغرى وتعزيز برامج التشغيل لجميع فئات المجتمع المغربي.
وبعد لجوء وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة في عهد الوزير السابق شكيب بنموسى، إلى اتخاذ قرار مجحف وغير منصف عام 2023 في حق فئة عريضة من الشباب الحالمين بالعمل في القطاع، يقضي بتسقيف سن ولوج أسلاك التعليم في 30 سنة، قبل أن يعود خلفه محمد سعد برادة إلى مراجعته وتحديده في 35 سنة، بدعوى أن الهدف من التسقيف هو ضخ دماء شبابية جديدة في المنظومة التعليمية، وتشجيع الشباب دون 30 سنة.حتى 35 سنة على الانخراط في مهنة التدريس. وأن قرار التسقيف يسمح ليس فقط بانتقاء المترشحين الجدد من خريجي الجامعات المتوثبين، بل يساهم كذلك في تعزيز جودة التعليم والارتقاء بمستوى المتعلمين إناثا وذكورا، فضلا عن تمكينهم من الاستفادة من مسار مهني متكامل ومحفز. وهو ما أثار جدلا واسعا وردود أفعال غاضبة على منصات التواصل الاجتماعي وخارجها، لاسيما أنه أدى إلى تفويت الفرصة على آلاف الشباب العاطلين من حملة الشهادات العليا، الذين يعتبرونه إجراء تمييزيا ومخالفا للفصل 31 من الدستور، الذي نص على: “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل لتيسير استفادة المواطنين من حق الشغل على قدم المساواة …”
فإن ذات الوزارة التي اتخذت في عهد صاحب القرار السالف الذكر ومهندس النموذج التنموي الجديد، مثل هذا القرار الجائر والمستفز للمشاعر في حق آلاف الأسر والشباب المعطلين، واضطرت فجأة إلى طلب الاستعانة بالأساتذة المتقاعدين، داعية إياهم إلى الانخراط في حصص الدعم التربوي لفائدة التلاميذ، من أجل تدارك الزمن المدرسي الضائع إثر الإضرابات الشغيلة التعليمية، التي عطلت الدراسة في مؤسسات التعليم العمومي بجميع جهات المملكة على مدى أزيد من ثلاثة أشهر، بسبب رفضها النظام الأساسي الجديد، الذي جاء مخيبا لآمالها ولم يستجب لمطالبها الملحة، قبل أن يتم التراجع عنه وتجويده تحت ضغط نساء ورجال التعليم المدعومين بالمركزيات النقابية والتنسيقيات الوطنية للتعليم.
وها هي تعود من جديد بعد أن أسندت حقيبتها إلى محمد سعد برادة في النسخة الثانية من حكومة عزيز أخنوش يوم 23 أكتوبر 2024، لتصدر خلال شهر نونبر 2025 بلاغا نشرته على صفحتها الرسمية بموقع “فيسبوك” تدعو من خلاله الأساتذة المتقاعدين للمشاركة في برنامج الدعم الموسع لفائدة تلاميذ مدارس الريادة في التعليم الأساسي والإعدادي، معتبرة أن هذه الخطوة تندرج في إطار تعبئة الكفاءات التربوية ذات الخبرة لدعم الجهود المبذولة قصد تحسين جودة التعلمات داخل المدرسة العمومية، ومؤكدة أن ما راكمه الأساتذة المتقاعدون من خبرة يمثل رصيدا مهما يمكن توظيفه في اتجاه تعزيز المواكبة التربوية وتوجيه التلاميذ.
فبقدر ما استحسن بعض الفاعلين التربويين هذه المبادرة، لما تمنحه من إمكانيات للتلاميذ المتعثرين في النجاح، وما لانخراط الأساتذة المتقاعدين في عملية الدعم من إيجابيات في تحسين مستواهم المعرفي، وتعويض الخصاص الناتج عن قلة أطر التدريس، إضافة إلى أنها تفسح المجال أمام الأساتذة المزاولين وخاصة المبتدئين منهم للاستفادة من تجارب وخبرة هؤلاء المتقاعدين. ويؤكد ظهور مدارس الريادة مدى الرغبة في محاولة تحسين مستويات التلاميذ “الضعاف”، إحداث نقلة نوعية في التعليم العمومي وتجويد نوعية التعليم والتعلم وتقليص نسبة المتعثرين، عبر خلق بيئة تعليمية مبتكرة وحديثة تساعد التلاميذ في التحصيل الجيد وتحفزهم على الخلق والابتكار، مما يساهم في تعزيز المكتسبات والمهارات الشخصية والاجتماعية مثل التواصل والعمل الجماعي والتفكير النقدي. والأهم من ذلك ربط التعليم بسوق الشغل واستخدام التكنولوجيا الحديثة وتوفير موارد رقمية متنوعة، فضلا عن تطوير مهارات الأساتذة وتمكينهم من استخدام أحدث استراتيجيات التدريس والتقنيات التعليمية، مع ما يلزم من فضاءات تعليمية آمنة…
بقدر ما ارتفعت أصوات أخرى تندد بتناقض الوزارة الوصية التي قررت تسقيف سن الالتحاق بالتدريس، وفي ذات الوقت تعود للجوء إلى الأساتذة المتقاعدين الذين استنزفت طاقاتهم الأمراض المزمنة، للانخراط في برنامج خاص بالدعم الموسع، علما أن هذه العملية التربوية الدقيقة في مدارس الريادة، التي تعتمد تقنية “طارل” المستوردة من الهند، والخاصة بالتلاميذ المتعثرين ممن يعانون صعوبات في الاستيعاب والفهم وفي القراءة والكتابة والحساب وغيره، تتطلب تركيزا قويا والقدرة على مواجهة أطفال صغار السن لا يتوقفون عن الحركة والكلام…
ألم يكن حريا بالوزارة الوصية منح الفرصة للشباب المعطلين وخاصة أولئك الذين حال التسقيف دون المشاركة في مباراة ولوج مهنة التدريس، وجعل الأساتذة المتقاعدين الذين راكموا خبرة عميقة في المجال، كما تشهد بذلك ملفاتهم الإدارية وتقارير التفتيش، القيام بنقل تجاربهم الإيجابية إلى المعطلين الذين وقع عليهم الاختيار، عبر تأطيرهم جيدا للقيام عوضهم بالدعم التربوي الذي يتطلب جهود مضاعفة؟
المصدر: العمق المغربي
