السودان بين العاصفة وتقاطعات القوى الكبرى

د. سماء سليمان

يقف السودان اليوم فى لحظةٍ فارقة من تاريخه الحديث، لحظةٍ يختلط فيها الدم بالتراب والمصالح بالمعاناة. فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع فى أبريل 2023، انزلقت البلاد إلى جحيمٍ بلا أفق، حيث تحولت المدن الكبرى إلى خرائب، والملايين نزحوا من ديارهم، والجوع والأوبئة صارت واقعاً يومياً. فلم يعد الصراع صراعا على السلطة فقط، بل معركة على بقاء الدولة نفسها، بعدما تآكلت مؤسساتها وتفكك نسيجها الاجتماعي.

لم تعد هذه المأساة الداخلية شأنا سودانيا محضا، بل صارت مرآة لصراع أوسع بين القوى الكبري. فالصين تنظر إلى السودان من زاوية مبدأها التقليدي: احترام السيادة وعدم التدخل، وعلى أن الحل يجب أن يكون سودانيا خالصا، وأن المجتمع الدولى ينبغى أن يقدّم الدعم الإنسانى فقط. تخشى بكين أن تؤدى الفوضى إلى تهديد مصالحها الاقتصادية فى إفريقيا، خصوصا فى مجالات النفط والمعادن، لذلك تفضّل الاستقرار، ومن ثم موقفها هادئ فى لهجته، لكنه مشبع بالبراجماتية التى تضع الأمن قبل الحرية. روسيا من جهتها تقارب المشهد بواقعيةٍ استراتيجية لا تخلو من المصلحة. فهى ترفع شعار الدفاع عن سيادة السودان، لكنها تسعى فى الوقت نفسه إلى تثبيت نفوذها فى البحر الأحمر. وقد استخدمت موسكو الفيتو فى مجلس الأمن ضد قرارات غربية لأنها ترى أن التدخل الدولى سيضعف موقعها ويقوّى خصومها، وخلف هذا الموقف حسابات تتعلق بتوسيع حضورها فى إفريقيا، وخلق توازن مع النفوذ الغربى فى منطقة استراتيجية.

أما فى الغرب، فالصورة أكثر مأساوية، ففى بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، تصف مقالات الرأى الوضع فى السودان بأنه القلب المظلم أو الكارثة المنسية، حيث تتحدث الصحافة الغربية بلغة إنسانية لكنها لا تخفى البعد السياسى من عجز المجتمع الدولى عن التعامل مع أزمة بهذا الحجم يعرّى نظاما دوليا مشلولا. ويرى المفكرون هناك أن الحل يبدأ بوقف شامل لإطلاق النار، وتأمين المساعدات الإنسانية، ثم إطلاق عملية سياسية تقودها قوى مدنية حقيقية بعيدا عن صفقات الجنرالات. اى أن الغرب يريد إنهاء الحرب، لكن بشروط تضمن أن يولد نظام جديد أقرب إلى قيمة الديمقراطية، وهو ما تعتبره موسكو وبكين تدخلاً مقنّعاً. بهذا المعني، أصبح السودان ساحة اختبار بين رؤيتين للعالم: رؤية شرقية تُقدّم السيادة والاستقرار على الديمقراطية، ورؤية غربية تُقدّم حقوق الإنسان لكنها تربطها بالمصالح. وبين الرؤيتين يقف السودانيون وحدهم فى وجه انهيار شامل.

ورغم تباين المواقف، يتفق معظم الخبراء والمفكرين على أن لا مخرج سياسيا ممكناً من هذه الحرب. فأى تسوية حقيقية يجب أن تبدأ بوقفٍ دائم لإطلاق النار بضمانات إقليمية ودولية، وبآلية مراقبة محايدة. فكل هدنة مؤقتة ثبت أنها ليست سوى استراحة مقاتلين. فبعد الهدوء النسبي، ينبغى إطلاق حوار وطنى شامل لا يقتصر على النخب العسكرية والسياسية، بل يشمل المجتمع المدني، والنساء، والشباب، والمناطق المهمشة التى كانت دائماً ضحية الصراعات المركزية. فالسودان لن ينهض إلا إذا أُعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة لا الولاء القبلى أو العسكري.

يأتى الإصلاح الأمنى والمؤسسى فى صلب أى حل طويل الأمد. من دون جيشٍ وطنى موحّد تحت سلطة مدنية، ستظل البلاد رهينة دوامة الانقلابات والميليشيات. لذلك، يقترح المفكرون فى أوروبا وأفريقيا برنامجاً لإصلاح الأجهزة العدلية والإدارية لضمان العدالة والمساءلة. كما يجب تفكيك شبكات التهريب وتمويل الحرب، وتجفيف مصادر السلاح التى تأتى من الخارج.

ويعد الاقتصاد السودانى هو الوجه الآخر للأزمة، فالبلاد التى كانت توصف يوماً بأنها “سلة غذاء إفريقيا” تعيش الآن على المساعدات. ومن ثم فأى تسوية سياسية بلا خطة إعادة إعمار وتنمية ستكون ناقصة. ولذا المطلوب هو مشروع وطنى يعيد بناء البنية التحتية، ويدعم الزراعة والتعليم والمياه، ويضمن توزيعاً عادلاً للثروة بين الأقاليم. فالتنمية ليست مجرد رقم اقتصادي، بل هى الضمانة الوحيدة ضد عودة الحرب. ومع ذلك، يبقى التحدى الأكبر هو استعادة الثقة بين المواطن والدولة. فبعد سنوات من الخيبات، لم يعد السودانيون يثقون فى السلطة. وهنا تكمن أهمية أن يكون الحل نابعاً من الداخل لا مفروضاً من الخارج. يمكن للمجتمع الدولى أن يساعد، لكنه لا يستطيع أن يفرض سلاماً لا يريده السودانيون أنفسهم.

يكشف الصراع فى السودان هشاشة النظام الدولى الجديد. فالعالم المنقسم بين قوى تبحث عن النفوذ وقيم تتذرع بالإنسانية، يكتفى بالمراقبة بينما يتآكل بلد بأكمله. كل طرف يتحدث عن السلام من زاويته، لكن أحداً لا يريد أن يدفع ثمنه الحقيقي. فالصين وروسيا تتحدثان عن السيادة، والغرب عن القيم، والإقليم عن النفوذ. والسودانيون وحدهم يدفعون الثمن بالدم والجوع والنزوح. ومع ذلك، لا يزال هناك أمل. فالشعوب التى أنهكتها الحروب كثيراً ما تصنع معجزاتها حين تلمس الحضيض.

ويمكن للسودان أن ينهض من جديد إذا وُجدت إرادة وطنية تتجاوز الجراح وتستعيد مشروع الدولة الجامعة. لن تنقذ الصين السودان بمشروعاتها، ولا روسيا بذهبها، ولا الغرب بعقوباته ومؤتمراته. من سينقذه هو السودانى الذى يختار أن يحمل الوعى بدل السلاح، وأن يرى فى الوطن مصيراً مشتركا لا غنيمة. ربما يبدو هذا الطرح حالماً فى زمن الخراب، لكنه واقعى إذا ما قورن بما يجري. فالتاريخ لا يرحم الأمم التى تستسلم للفوضي. وأمام السودان خياران لا ثالث لهما: أن يتحول إلى دولة فاشلة جديدة فى قلب إفريقيا، أو أن يصنع نموذجاً فريداً للنهوض الوطنى من بين الركام.

نقلاً عن الأهرام 

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.