أمد/ تُظهر التجربة الفلسطينية، الممتدة لأكثر من عامين منذ بدء العدوان الأخير على قطاع غزة، وما سبقها من خمسة حروب مدمّرة خلال أقل من خمسة عشر عامًا، أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي باستخدام القوة العسكرية المفرطة لتدمير البنية التحتية والمنازل والمستشفيات والمدارس، بل يُصرّ بشكلٍ ممنهج على تعطيل أي جهد لإعادة الإعمار، بهدف إبقاء القطاع في دائرة الكارثة الإنسانية الدائمة.
هذا التعطيل ليس تفصيلاً إداريًا، ولا خلافًا تقنيًا على “آليات إدخال مواد” كما تحاول الرواية الإسرائيلية الإيحاء، بل هو سياسة استراتيجية ثابتة تستهدف إبقاء غزة غير قابلة للحياة، ودفع أهلها نحو الهجرة القسرية، عبر تحويل كل محاولة للعيش الكريم إلى معركة يومية. فالمواد ممنوعة، الكهرباء مقنّنة، المساعدات تُحاصر، والاحتياجات الإنسانية تُعامل كتهديدات أمنية، في مشهد لا يشبه سوى العقاب الجماعي الذي يحرّمه القانون الدولي بصريح النص.
إنّ استهداف العمران الفلسطيني ليس نتيجة جانبية للحرب، ولا رد فعل آني، بل هو فعلٌ تعمّده الاحتلال عبر عقود، إذ طال التدمير المتعاقب أحياءً سكنية بكاملها، ومرافق استراتيجية كالمستشفيات والموانئ ومحطات المياه والاتصالات، رغم عدم وجود أي ضرورة عسكرية لذلك. هذا النمط المتكرر يرقى إلى مستوى جريمة حرب مكتملة الأركان، ويضع إسرائيل أمام مسؤولية قانونية واضحة وفق اتفاقيات جنيف الرابعة، وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، ونظام التعويضات المتعارف عليه في حالات الاحتلال والعدوان.
إنّ استمرار الاحتلال في عرقلة عملية الإعمار، رغم النداءات الدولية والعربية، يثبت أنّ هدفه ليس الأمن بل إدامة الإبادة البطيئة، ومحو مقومات المجتمع الفلسطيني في غزة، والحيلولة دون إعادة بناء ما دمّرته آلته العسكرية التي لم تترك حجراً على حجر. ولذلك، فإنّ أي حديث عن “خطة إعمار” دون آلية دولية مُلزمة لإجبار إسرائيل على دفع التعويضات الكاملة، ورفع الحصار، وفتح المعابر، وإتاحة المواد والمعدات، ليس سوى خطاب فارغ يُعيد إنتاج الأزمة ولا يعالج جذورها.
يحق للشعب الفلسطيني، مثل كل الشعوب التي تتعرض للعدوان، المطالبة بتعويضات مالية وقانونية وسياسية عن كل ما لحقه من دمار وخسائر بشرية ومادية واقتصادية ونفسية. وهذا الحق ليس منّة من أحد، ولا يخضع لمساومات سياسية، بل هو استحقاق تحدده المحاكم الدولية، ومبادئ العدالة الانتقالية، والالتزامات التي يتحملها كل محتلٍّ تجاه الأرض التي يسيطر عليها بالقوة.
إنّ المعركة اليوم ليست فقط معركة إعادة بناء الحجارة، بل معركة فرض المحاسبة والمسؤولية على دولة الاحتلال، ومنعها من الاستمرار في تدمير غزة ثم منع إعمارها. فلا سلامٌ دون عدالة، ولا عدالة دون محاسبة، ولا محاسبة دون إلزام إسرائيل بدفع ثمن ما ارتكبته من جرائم، وما تعمّدت إلحاقه بشعبٍ أعزل من أذى وخراب وتشريد.
وفي النهاية، يظلّ حق الشعب الفلسطيني في إعادة إعمار وطنه، وتقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة لاجئيه إلى ديارهم، هو أساس أي تسوية عادلة، وهو جوهر نضاله ووجوده، مهما طال أمد العدوان وتعددت جولات التدمير.
