أمد/ منذ الدمار الذي لحق بهيروشيما (في 6 أغسطس 1945) وناجازاكي (في 9 أغسطس 1945)، لم تكن الأسلحة النووية مجرد أدوات للدمار، بل أصبحت فوراً بداية لسباق عالمي مجنون نحو الردع والهيمنة. تاريخ امتلاك الدول للأسلحة النووية ليس قصة عن التفوق العلمي فقط، بل هو سرد مظلم عن الخيانة، التجسس، واليأس الوجودي الذي دفع القوى الكبرى والصغرى على حد سواء للبحث عن “وثيقة التأمين النهائية”: القنبلة.
إن النادي النووي ليس نادي الصفوة المتفق على قواعده، بل هو رمز للعزلة السياسية المطلقة ومحور عدم الثقة الدولية. ومن هنا، لا يُفهم النووي بمعناه العسكري المجرد، بل كأداة استراتيجية وحيدة للحفاظ على السيادة والردع في عالم تحكمه المصالح الصارمة.

1. الخيانة الكبرى: أسطورة الحليف الوفي
أظهرت القوة النووية الناشئة في منتصف الأربعينيات أن المصلحة الوطنية تتجاوز أي تحالفات تاريخية.

أ. الطعنة الأمريكية في ظهر الحليف البريطاني
كانت الولايات المتحدة، رائدة مشروع “مانهاتن”، أول من مزّق ورقة الصداقة بين الدول. فبعد انتهاء الحرب مباشرة، وجدت المملكة المتحدة، الشريك المؤسس في المشروع، نفسها مطعونة في الظهر عندما قررت واشنطن الاحتفاظ بالتكنولوجيا سرية. رسّخ هذا الموقف قانون الطاقة الذرية الأمريكي لعام 1946 (قانون ماكماهون)، الذي حظر التعاون النووي مع جميع الدول الأجنبية. هذا التضييق أجبر لندن على بدء برنامجها المستقل، لتُجري بنجاح أول تجربة نووية لها في 3 أكتوبر 1952. هذا الحدث رسّخ مبدأ صارخًا في السياسة الدولية: لا يوجد حليف موثوق به في عالم الذرة.

ب. الردع السوفيتي القائم على التجسس
لم ينتظر الاتحاد السوفيتي دور الخيانة الرسمية؛ فقد بنى رادعه بالاعتماد على شبكات التجسس المخترقة لقلب المشروع الأمريكي. تمكن الجواسيس، وأبرزهم الفيزيائي كلاوس فوكس، من نسخ المخططات الحيوية داخل مشروع مانهاتن. ونتيجة لذلك، فجّر الاتحاد السوفيتي قنبلته الأولى (RDS1) في أغسطس 1949، منهياً احتكار واشنطن للنووي في غضون أربع سنوات فقط، وهو ما جعل الردع السوفيتي قائمًا على الوشاية والتجسس أكثر من التفوق العلمي البحت.

2. الإذلال السياسي وثمن السيادة: فرنسا والصين
كانت اللحظات المحورية التي شعرت فيها الدول بالإذلال أو التخلي هي الوقود الحقيقي لبرامجها النووية.

أ. فرنسا: الردع من أجل الاستقلال (القوة الضاربة)
خلال أزمة السويس في أكتوبر ونوفمبر 1956، اضطرت فرنسا للتراجع أمام الضغط المشترك من واشنطن وموسكو. هذه الحادثة كانت بمثابة صدمة وطنية، جعلت باريس تدرك أن الاعتماد على حلفاء قد يكون مكلفاً ومذلاً. منذ ذلك الحين، تبنت باريس سياسة “الاستقلال الاستراتيجي الكامل”، متوجةً بـ “القوة الضاربة” (Force de Frappe)، حيث أجرت أول تفجير نووي لها في الصحراء الكبرى الجزائرية بتاريخ 13 فبراير 1960.

ب. الصين: القنبلة قبل الخبز
تجسد سعي الصين للنووي حالة اليأس الوجودي. حين قرر الاتحاد السوفيتي سحب آلاف اء النوويين ووقف الدعم التقني في منتصف عام 1960، اختارت بكين الطريق الصعب. لقد ركزت على برنامج نووي مستقل، حتى وسط سنوات الثورة الثقافية والمجاعة. جاءت القفزة بامتلاكها القنبلة الأولى في 16 أكتوبر 1964 (المشروع 596)، وهو مثال واضح على أن اليأس والقومية الشديدة هما الوقود الحقيقي لصناعة الردع.

3. حزام الهوس النووي والرهان على البقاء
تتخذ الدول غير المؤسسة للنادي النووي من السلاح الذري وسيلة وحيدة لضمان عدم “الإلغاء” من الخريطة السياسية، مدفوعة بالخوف واليأس.
سباق الهند وباكستان ضد الفناء

بعد هزيمة الهند أمام الصين، أصبح النووي ضرورة استراتيجية، حيث أُجري أول تفجير هندي (“بوذا المبتسم”) في مايو 1974. ردت باكستان على ذلك بصناعة سلاحها الخاص، مدفوعة بشعار البقاء مهما كان الثمن، لتُجري تفجيراتها (شاغايI) في 28 مايو 1998، بعد أيام فقط من التجارب الكبرى للهند في الشهر نفسه.

مثال عبد القدير خان يوضح أن القواعد تنهار عندما يكون البقاء على المحك؛ فخان سرّب مخططات أجهزة الطرد المركزي بعد عودته لباكستان في عام 1976، وأقر في عام 2004 بنقل تكنولوجيا نووية حيوية إلى كل من إيران وليبيا وكوريا الشمالية.
الخوف من الإلغاء (إسرائيل وكوريا الشمالية)
تتحرك كل من إسرائيل وكوريا الشمالية بالمحرك نفسه: الخوف من الانقراض. إسرائيل بالغموض النووي، وكوريا الشمالية بالتجارب الصارخة (بدأت في 2006). النووي هنا ليس رفاهية، بل ضمان للبقاء واستمرار النظام السياسي في وجه التهديدات الوجودية.

الدول على الحافة النووية والإمكانات الكامنة
إيران: تحافظ إيران على برنامج نووي يُعلن مدنيًا، لكنه مثير للجدل دوليًا. لم توقف الضربات أو حوادث التخريب المتكررة التي استهدفت منشآت حيوية مثل نطنز وفوردو (ومنها حوادث بارزة في 2010 و2020) البرنامج بالكامل. هذا يضعها على حافة القدرة النووية، دون إعلان رسمي عن امتلاك سلاح.

اليابان: رغم حظرها على تصنيع الأسلحة، تمتلك بنية تحتية كاملة لدورة الوقود النووي. هذه الحالة تُعرف بـ الدولة النووية الكامنة، التي تمتلك القدرة التقنية الكاملة للتحول السريع لإنتاج سلاح نووي إذا لزم الأمر.

مصر: أعلنت عن أربع مفاعلات في الضبعة بالشراكة مع روسيا، وقد تم توقيع الاتفاقية الرئيسية في نوفمبر 2015. تبلغ التكلفة التقديرية للمشروع ما يقارب 28.5 إلى 30 مليار دولار أمريكي، والهدف المعلن هو توليد الطاقة الكهربائية، ما يمثل نموذجًا لدولة تبني القدرة النووية لأغراض مدنية واستراتيجية.

4. الاستثناء الذي يثبت القاعدة: جنوب أفريقيا
جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي صنعت ترسانة نووية سرية (ستة رؤوس حربية) ثم دمّرتها طواعية. جاء هذا التخلي بعد أن وقعت على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) في عام 1991، وتم التفكيك الكامل للترسانة ومرافق الإنتاج قبل الانتقال الديمقراطي في عام 1994. هذه الحالة تثبت أن الخوف الوجودي هو المحرك الأساسي لامتلاك النووي، وليس التفوق العلمي وحده، وعندما يزول هذا التهديد، يصبح السلاح عبئاً يمكن التخلي عنه.

وثيقة التأمين الوحيدة
في عالم تحكمه الفوضى وانعدام الثقة، حيث القوة الذاتية هي الدرع الأخير، يبقى النادي النووي قائمًا كحقيقة قذرة. إن الدول المنتمية إليه لا تثق بحلفائها، والصداقات ما هي إلا ذكرى من زمن سابق للحرب الباردة.
القنبلة ليست مجرد سلاح، بل هي وثيقة التأمين الوحيدة ضد الإلغاء السياسي، والتأكيد المطلق على أن أي تهديد وجودي سيقابل برد لا يرحم. هذا المبدأ المتمثل في “الدمار المضمون المتبادل” هو الركيزة غير المعلنة للنظام العالمي.

شاركها.