فض الاعتصام: جريمة العصر الكبرى

د. عبد الله عابدين

تمثل وثيقة قوى الحرية والتغيير الأساس الذي توافقت عليه أحزاب وكيانات قوى الحرية التغيير، لتصبح بمثابة تصور عام، وخارطة طريق لها. وقد صارت هذه الوثيقة أساساً لوفد التفاوض الذي كان يتولى الحوار مع المجلس العسكري بالنيابة عن قوى الثورة الحية.

بيد أن هذه الوثيقة قد تعرضت لكثير من التعديلات من قبل المجلس العسكري، ومن قبل قوى الحرية والتغيير ذاتها. وفي مرحلة حاسمة من المداولات حول طبيعة و مهام المرحلة الانتقالية، ونتيجة لمستجدات عملية الحوار مع المجلس العسكري الانتقالي، انتهجت قوى الحرية والتغيير نهجاً جديد. وتمثل هذا النهج في تحويل مركز الاهتمام من الجدل حول المحاصصة، ومن يأخذ ماذا، الى مناقشة مهام وصلاحيات كل سلطة من السلطات المتمثلة في الآتي:

السلطة التنفيذية
السلطة التشريعية
السلطة السيادية

وكانت الأخيرة، السلطة السيادية، هي العقبة أمام الحوار، فأضحى السؤال: لمن تكون رئاسة مجلس السيادة، كم من المدنيين يضم، وكم من العسكريين، سجالاً يصعب الخروج منه. عند هذه العقبة الكؤود تحولت قوى الحرية والتغيير الى التخلي عن ذلك الاتجاه المحاصصي بين المدنيين والعسكريين، الى موضوع الصلاحيات والسلطات. وكانت هذه الخطوة قد جاءت بإيعاز من السيد الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، أحد مكونات قوى الحرية والتغيير آنذاك.

قبل بلوغ هذه العقبة الحوارية، كان المتحاورون من المجلس العسكري، وقوى الحرية والتغيير، قد اتفقوا على أن تكون السلطة التنفيذية كاملة من المدنيين، ما عدا وزارتي الدفاع والداخلية. أما السلطة التشريعية، المجلس التشريعي، فقد تم التوافق على أن تكون ٦٨٪ من التمثيل النيابي لقوى الحرية و التغيير، مع إستشارتها في الباقي من هذه النسبة، وهي ٣٢٪ من هذا التمثيل.

وبدا جلياً أن القوى الغير ممثلة في إعلان قوى الحرية والتغيير كانت تعبر عن تبرمها من هذه القسمة، التي ترى أنها كانت مجحفة في حقها، وترى أن يكون هنالك توافق بين جميع القوى السياسية الفاعلة في الساحة السياسية السودانية. أما قوى الحرية والتغيير فكانت ترد بأنها تمثل طيفاً واسعاً من القوى السياسية المعارضة للنظام البائد، قوى تمثل كل الطيف السياسي من أقصى اليمين، عبر الوسط، الى أقصى اليسار.

وتصنف بقية القوى السياسية في الساحة بأنها إما قوى كانت مشاركة في النظام البائد حتى لحظة سقوطه في الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩، وإما أخرى، وهي من ضمن من كانوا يسمون بأحزاب “الحوار الوطني” التي قفزت من سفينة الإنقاذ حينما استشعرت أنها في سبيلها الى الغرق.

لهذا فإن قوى الحرية والتغيير كانت تستبعد اشتراك هذه القوى في إدارة المرحلة الانتقالية، التي اتفق بينهم وبين المجلس العسكري أن تكون ثلاثة سنوات، تعقبها إنتخابات حرة ونزيهة. تكون فيها الدولة السودانية قد تم تحييدها، وصارت على مسافة واحدة من الجميع، دولة مدنية، تقوم على مبدأ المواطنة، يتم تداول السلطة فيها بطريقة سلمية، وعلى أساس ديموقراطي.

هذا المنطق يستمد قوته من أن الدولة كان قد تم اختطافها من قبل حزب المؤتمر الوطني، ومن والاه من الأحزاب، والكيانات، و معظمهم من الاسلاميين. وكانت تلك الإنتخابات الصورية التي يترشح فيها البشير، فلا يفوز فيها غيره، وكان يستععمل فيها كامل أجهزة الدولة، ومقدرات الشعب السوداني، وموارده، بحيث يصير فوزه مقرراً سلفاً، وبنسب مهولة.

بطبيعة الحال، فإن إقتراحات الانتخابات المبكرة، التي كان يقف وراءها المجلس العسكري، و قوى أخرى، لم تكون الا تمثيلية أخرى ممجوجة، و تفرغ الثورة من محتواها. وكأنها تقول بكل إستخفاف، أن دماءكم أيها الثوار قد راحت هدراً، و ذهبت مع الريح، وأنكم قد “متم فطائس”، على حد تعبير عراب الإسلام السياسي في السودان، المرحوم د. حسن الترابي واصفاً، في تهكمه المعهود، ذات الشباب الذين قام هو وقبيله من الإسلامويين بتجييشهم في أتون الحرب الجهادية التي أشعلوا نيرانها في جنوب السودان.

وبينا هذه الوقفة أمام “عقدة” مجلس السيادة تطيل من نفسها، فتنعقد الجلسات، وتنفض، بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، فلا يبرح التفاوض مكانه، حتى جاءت ليلة الثامن والعشرين من شهر رمضان الكريم، الموافق للثاني من يونيو 2019. والحق أن لغطاً كان يدور حول ما سمي بـ”كولومبيا”، وما أدراك ما كولومبيا؟!.. إن هي الا ذريعة لما سيرتكبونه من جرم صبيحة الغد، ولما يحاولون باستماتة “دفنه سوياً”، فما الذي حدث؟!..

فض الاعتصام.. يا لهول ما وقع!! .. عجت الساحة، واندلعت النيران في الخيام، وتصاعدت ألسنة اللهب، والدخان، منها، واختلط الصراخ بصوت الذخيرة الحية، وسالت دماء الأبرياء العزل من الشباب والشابات..

كيف بالله عليك، وقع هذا؟! وكيف يمكن لمجلس يدعي تمثيل القوات المسلحة السودانية، وبعد أن وعد مراراً وتكراراً بأنه سوف لن يقوم بفض الإعتصام بالقوة أبداً، أن يجترح ما اجترح من همجية، ومن ولوغ في دماء فتية الإعتصام الذين ما كانوا متسلحين الا بسلميتهم؟! ..

كانت الصدمة مدوية، والجرعة مميتة، وهول المصاب جللاً.. ودخلت مذبحة الخرطوم في التاسع والعشرون من رمضان، الموافق للثالث من يونيو ٢٠١٩ تاريخ المذابح المشئوم، وكللت بشؤمها وجه متأسلمي الانقاذ، و من شاركهم فيها من عناصر أخرى بظلمة ليلها الكالحة.. ولن تنفك هذه المجزرة تطالب التاريخ بالكشف عما توارى خلف ستارها من مكائد، و بالنطق بحكمه فيمن إرتكبوا هذه الفعلة الشنيعة التي يندى لها الجبين..

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.