تعيش الصحافة المغربية مرة أخرى على وقع صدمة جديدة بعد التسجيل المسرّب الذي نشره الصحفي حميد المهداوي، والذي قدّم من خلاله صورة صادمة عن الكواليس الخفية داخل لجنة انتقاء المشاريع الصحفية. التسجيل، بصوته الواضح ونبرته المباشرة، لم يكشف فقط عن سلوكيات مشبوهة أو لغة غير مهنية، بل أعاد طرح السؤال الجوهري حول طبيعة تدبير الشأن الإعلامي في المغرب، وحول المعايير التي تحكم منح الدعم العمومي، وكيف يتحول أحياناً إلى آلية إقصاء بدل أن يكون وسيلة لتقوية الجسم الإعلامي الوطني.
لقد قدّم المهداوي، مرة أخرى، درساً في شجاعة الكلمة. فالتسجيل لم يكن مجرد كشف لواقعة، بل تفكيك لخطاب كامل يفضح علاقة السلطة الإدارية بالمشهد الصحفي، ويبين كيف تُتخذ القرارات داخل الغرف المغلقة بعيداً عن مبادئ الشفافية التي يعلنها القانون، وعن روح الدستور الذي يقر بحرية الصحافة واستقلاليتها. اللغة المتداولة بين أعضاء اللجنة، كما ظهر في التسجيل، عكست ذهنية تتعامل مع المشاريع ومع الصحفيين بمنطق المحاباة والانتقائية، وتحيط العمل الإعلامي بنظرة فوقية تُسقط المهنية وتفتح الباب للتأويل والشكوك.
على المستوى القانوني، ورغم الجدل المتكرر حول مشروعية التسجيلات، فإن القانون المغربي واضح في نقطة جوهرية: إذا كان التسجيل يهدف إلى فضح خرق للقانون أو كشف فساد أو حماية مصلحة عامة، فإنه يتحول إلى قرينة قوية أمام الرأي العام، ويُعامل في العديد من التشريعات كوسيلة لحماية المجتمع من تعسف السلطة أو سوء استعمالها. والأهم أن ما عرض في التسجيل لا يدور حول الحياة الخاصة، بل يخص سيراً إدارياً عمومياً يمسّ المال العام، وبالتالي فإن نشره يدخل ضمن نطاق المصلحة العامة التي تتقدم على أي ادعاء بالسرية أو الخصوصية. فالشفافية ليست خياراً، بل واجب قانوني وأخلاقي حين يتعلق الأمر بتدبير دعم مالي مصدره جيوب المواطنين.
التسجيل كشف كذلك مفارقة أكبر: كيف يمكن لمؤسسة يُفترض أن تكون حامية للصحافة أن تتحول إلى عائق أمام تطورها؟ وكيف يُدار الدعم العمومي بمعايير غامضة لا يعرفها أحد سوى تلك اللجان التي لا تتغير إلا شكلياً؟ الأحاديث المسربة بين الأعضاء، وطريقة تقييم الملفات، والسخرية التي طالت بعض المشاريع، كلها مؤشرات على أن الخلل أعمق من مجرد زلة فردية. إنه خلل بنيوي في تصور العلاقة بين الدولة والصحافة، وفي فهم دور الدعم العمومي الذي يُفترض أن يكون أداة إصلاح لا وسيلة ضبط.
إن ما جرى يعيد فتح سؤال الشفافية من جديد: لماذا تُدار القرارات خلف الأبواب المغلقة؟ ولماذا لا تُنشر محاضر اللجان كما هو معمول به في المؤسسات الديمقراطية؟ ولماذا لا يخضع توزيع الدعم لآليات واضحة قابلة للمراقبة؟ الواقع أن ما خفي أعظم، وأن ما كشفه المهداوي ليس سوى الجزء الظاهر من منظومة تحتاج إلى فتح شامل وإعادة بناء كاملة.
يبقى الأهم أن هذا الجدل لا يجب أن يتحول إلى صراع شخصي أو انتقامي، بل إلى لحظة مراجعة وطنية صادقة. فالدعم العمومي أصبح ضرورة في ظل الأزمة الاقتصادية للمقاولات الإعلامية، لكنه لا يمكن أن يستمر في إطار ضبابي يخلق علاقة تبعية بدل علاقة شراكة. والمطلوب اليوم ليس إسكات من يدق ناقوس الخطر، بل الاستماع إليه. فحميد المهداوي، رغم كل ما تعرض له سابقاً من محاكمات وسجون وضغوط، يثبت مرة أخرى أنه صوت لا يُقصى، وأن الصحافة الحرة ما زالت قادرة على فضح الواقع حين تملك الشجاعة والإرادة.
إن الخلاصة التي يخرج بها هذا الحدث، بكل تعقيداته، هي أن مستقبل الإعلام المغربي لن يُبنى بالغرف المغلقة، بل بالوضوح والمحاسبة واحترام ذكاء الجمهور. وما كشفه التسجيل ليس إساءة لسمعة المغرب، بل دعوة إلى الإصلاح، وإلى إعادة الثقة بين الصحفيين والمؤسسات، حتى لا تتحول المهنة إلى مجرد ديكور ديمقراطي بلا تأثير. فحرية التعبير لا تعني فقط الكلام، بل القدرة على كشف ما لا يريد البعض أن يُكشف.
وفي النهاية، يبقى التضامن مع حميد المهداوي تضامناً مع حق الصحافة في أن تكون سلطة حقيقية، وأن تمارس دورها في الرقابة والمساءلة، وأن تُسمع صوتها مهما كان مزعجاً لأصحاب الامتيازات. فالإصلاح يبدأ من الحقيقة، والحقيقة أحياناً تحتاج إلى تسجيل واحد ليعرّي ما تحاول المؤسسات إخفاءه.
المصدر: العمق المغربي
