لم تكن الفضيحة الأخيرة التي تفجرت في وجه المشهد الإعلامي المغربي حادثا عابرا، ولا زلة مهنية يمكن ترقيعها ببيان اعتذار بارد. إنها، في جوهرها، كابوس رعب كامل؛ كابوس يكشف على ضوء خافت ما تحاول النخب أن تخفيه خلف خطاب الشفافية والهيئات الأخلاقية ومساطر التنظيم الذاتي. كابوس يذكر بما وصفه بيير لاسكوم حين تحدث عن النخب المنحرفة: تلك التي ترتكب كل الأخطاء التي ينهى عنها القانون، دون أن تتحرك داخلها ذرة خوف من مساءلة أو محاسبة، لأنها ببساطة نخب تحسن صناعة دروعها قبل ارتكاب خطاياها.

في هذا الكابوس، لا نرى قانونا ينظم، ولا هيئة تؤطر، بل نرى منظومة تدير ملفاتها بمنطق الانتقام والجرح الشخصي، وكأن المهنة حلبة لتصفية الحسابات وليست ساحة لإعلاء القيم. نرى اجتماعات مغلقة تتحول إلى مسارح تنتهك فيها كل اللياقات المؤسسية، ونرى قرارات تصنع على مهل، بقدر ما تخدم الذوات النافذة أكثر مما تخدم الحقيقة المهنية.

إن من يعرف مقاربة لاسكوم يدرك أن الانحراف داخل النخب ليس حدثا، بل نمط اشتغال. فالنخبة حين تخطئ، لا تخاف عقابا، بل تخاف الفضيحة؛ وعندما تقع الفضيحة، لا تخشى مساءلة، بل تنشغل بتطهير صورتها، حتى لو كان الثمن سحق كل من تجرأ على إظهار الحقيقة. في هذا المشهد، نكتشف أن بعض النخب لا تدافع عن المؤسسات، بل تختبئ خلفها، وتستعملها كأدوات رمزية لإضفاء طابع القانون على قرارات لا تمت للقانون بصلة.

الكابوس الحقيقي ليس في الكلمات الفظة التي سمعت، ولا في السلوكات التي ظهرت، بل في الرسالة العميقة التي تبثها: رسالة تقول إن السلطة أي سلطة عندما لا تُراقَب، تتحول إلى غريزة. وأن من يملك جزءا من القرار يشعر بأن من حقه أن يوزع العقاب كما يشاء، ويمنح الامتياز كما يشاء، ويحول المؤسسات إلى ملحقات لغضبه أو رضاه.

كل كابوس ينتهي عند الاستيقاظ، إلا الكابوس المغربي؛ فهو يستمر لأن البنية التي تصنعه لا تزال تعمل. لا يزال النظام المهني يُدار بعقلية المقام بدل المسؤولية، ولا تزال النخب تعتقد أن القانون وُجد ليطبَّق على الضعفاء فقط، وأن الهيئات الأخلاقية مجرد واجهة لإخفاء ما يجري في الخلف. إنها كما وصفها لاسكوم نخب تنزلق نحو الانحراف ليس لأنها فاسدة بالضرورة، بل لأنها غير خائفة. والنخبة التي لا تخاف، نخبة لا ترى المجتمع إلا كجمهور مأمور، لا كقوة مراقبة.

إن كابوس الرعب الذي نراه اليوم لا يتعلق بصحافي أو لجنة معينة، بل بمنطق كامل يلتهم الثقة في المؤسسات، ويحوّل كل محاولة للإصلاح إلى ديكور ينهار عند أول اختبار. كابوس يجعل المواطن يشك في كل قرار، وكل هيئة، وكل خطاب يتحدث عن الأخلاق بينما الواقع يعلن العكس تماما.

وما لم تُفتح نوافذ هذا الكابوس على هواء الرقابة والمحاسبة والشفافية، سيظل الليل طويلا، وسنظل نحلم أو بالأحرى نرتعب داخل مشهد لا يختلف كثيرا عن الذي وصفه السوسيولوجيون: نخبة منحرفة تملك السلطة، وجمهورا مكمما يكتفي بمشاهدة العرض.

إنه كابوس الرعب؛ لكن ما هو أكثر رعبا… هو اعتيادنا عليه.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.