أفرغ الدبلوماسي الكويتي سليمان الفصام خلاصة تجاربه الدبلوماسية التي امتدت على نحو 40 عاماً في كتاب صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات الكويتية تحت عنوان «40 عاماً… رحلة مع قافلة الدبلوماسية». ويعتبر الفصام أن العمل الدبلوماسي مهم ومفيد، لكنه شاق ويحتاج إلى الجد والمثابرة وتحليل عميق وفهم لمعني الحياة الدبلوماسية. وبقدر ما في تلك الحياة من منافع وفوائد فإنها لا تخلو من المعاناة والمصاعب وأهمها مسألة تعليم الأولاد خلال التنقل من دولة إلى ثانية والترحال من بلد إلى آخر، وكذلك الغربة والابتعاد عن الوطن فترة زمنية طويلة قد يكونان سبباً في انقطاع الصلات الوثيقة بين الدبلوماسي وأصدقائه في الكويت. ويشير الفصام، في كتابه الذي ننشر مقتطفات منه على حلقات، إلى مفهوم غير صحيح لدى البعض عن الدبلوماسية حيث يسود اعتقاد بأنها نوع من الجاسوسية، وهي في حقيقة الأمر عمل مميز لتقوية العلاقات وتبادل المنافع وبناء الجسور بين الكويت والدول، وهذا هو مفهومها الصحيح. وحرص السفير الفصام على إيراد أمثلة لكيفية بناء العلاقات وحلها وإدارة الأزمات وإعادة تطبيع العلاقات، مسلطاً الضوء على دور دولة الكويت في الوساطة بين الدول وكونها طرفاً فاعلاً ضمن عمل سياسي جماعي، وإلى تفاصيل الحلقة الثانية.

الانطلاقة الأولى من العمل الدبلوماسي التحقت بالعمل في وزارة الخارجية بتاريخ 7 يوليو 1963م، وتم تعييني في قسم المحاسبة، وكان السفير عبد الله زكريا الأنصاري يشغل منصب مدير الشؤون الإدارية والمالية، والسيد عبد المحسن الدويسان يشغل منصب المعاون الإداري والمالي، والسيد عبد الله البالول أمين الصندوق، والسيد بدر السالم مساعد أمين الصندوق، وبعد فترة قصيرة من تعييني انضم السيد عبد المحسن العتيقي (رحمه الله) إلى قسم المحاسبة وأصبح فيما بعد رئيساً لقسم المحاسبة على امتداد السنوات اللاحقة.
كان مقر وزارة الخارجية يقع آنذاك في بيت الشيخ عبد الله المبارك الصباح في الشامية (وبعد تنظيم المناطق أصبح موقعه في ضاحية عبد الله السالم قطعة 4 مقابل ثانوية يوسف بن عيسى)، ومن ثم نقلت الوزارة إلى مبنى في شارع السور، وأخيرا انتقلنا إلى المقر الحالي بجانب قصر السيف على البحر في منتصف الثمانينيات.
وكان في ذلك الوقت السيد عبد الرحمن سالم العتيقي (رحمه الله) يشغل منصب وكيل وزارة الخارجية، وهنا أرى من واجبي أن أشيد بمناقب الفقيد الراحل السيد عبد الرحمن العتيقي، فقد شغل منصب سفير الكويت في واشنطن ومنصب المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك في آن واحد قبل توليه منصبه وكيلا لوزارة الخارجية. والسيد (أبو أنور) من الرجال المخلصين، فقد أثبت بكل جدارة واقتدار كفاءة عالية في كل المناصب التي تولاها. وفي أثناء توليه منصبه وكيلا لوزارة الخارجية كان مثالاً يحتذى به، وذلك من خلال تعامله مع جميع العاملين، وبخاصة نحن الشباب المقبلين على العمل في السلك الدبلوماسي. وكان خير معين لنا بإرشاداته وتوجيهاته ورعايته الشخصية التي أشعرتنا جميعا بأنه الأب الحنون والمربي الفاضل.

الفصام التحق بأهم معهد دبلوماسي بالهند للتدريب في أوائل الستينيات

المعهد الدبلوماسي الهندي «سابرو هاوس» 
وفي نهاية عام 1963م كان من المفترض أن يتم إرسال الدبلوماسيين الجدد للتدريب في جامعة كولومبيا في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، وفعلاً تم توزيع بعض المعلومات عن الدراسة هناك. لكن الوضع تغير وتقرر إرسال مجموعة من موظفي وزارة الخارجية للدراسة والتدريب في المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية الهندية في دلهي الهند. وقد استدعانا سعادة الوكيل السيد عبدالرحمن العتيقي (رحمه الله) وقال: «إن لدى الوزارة فكرة إرسال شباب كويتيين للتدريب في المعهد الدبلوماسي في الهند» وهو المعروف باسم Indian School of International Studies Sapru House ويعد هذا المعهد التابع لوزارة الخارجية الهندية الأبرز في الهند، حيث يلتحق به جميع الدبلوماسيين الهنود للدراسة والتدريب لمدة سنتين، كما أنه يُعد من أفضل المعاهد الدبلوماسية على مستوى العالم.
وقد ارتأت وزارة الخارجية الكويتية ضمن خطة تأهيل الدبلوماسيين الجدد الذين يلتحقون بوزارة الخارجية إرسال مجموعة من الشباب الكويتيين للدراسة والتدريب هناك لمدة سنة تقريبا، وقد وقع الاختيار على سبعة أشخاص؛ يوسف محمد المنيس، وسليمان سالم الفصام، وأحمد صالح العتيقي، وخالد حمود الصفيح، ومحمد صالح الإبراهيم، ومحمد جاسم المطوع، وعبد اللطيف الصالح.
وبالفعل غادرنا الكويت في 3 يناير 1964م إلى بومباي واستقبلنا قنصل الكويت في بومباي السيد فيصل العيسى لمدة ثلاثة أيام لقينا خلالها عنده حسن الضيافة، وفي ذلك الوقت لم يكن لدى الكويت سفارة في دلهي الهند، ومن بعدها سافرنا من بومباي إلى دلهي، واستقبلنا مدير المعهد الدبلوماسي، ومن ثم بدأنا الدراسة مباشرة فقد أعد لنا برنامجاً تدريبياً خاصاً ومنفصلا، كما وضع لنا جدولاً يومياً من الساعة الثامنة صباحا إلى الرابعة عصرا بمعدل 8 ساعات في اليوم. ومن ضمن الدراسة في المعهد تم ترتيب زيارات إلى مناطق مختلفة في الهند، ومنها منطقة «شملة»، وتعد العاصمة الصيفية أيام حكم الإنكليز للهند. إن منطقة شملة ذات طبيعة جبلية عالية وخلابة، وأقمنا هناك في فندق ممتاز مع مرافقي الوزارة ضمن الرحلات المعدة خلال البرنامج التدريبي لكسر الروتين الدراسي في المعهد.
وفي أثناء وجودنا في دلهي قام الشيخ صباح الأحمد الصباح رحمه الله معالي وزير الخارجية آنذاك، بزيارة رسمية ناجحة إلى الهند وهو في طريقه إلى اليابان استغرقت عدة أيام، قابل خلالها فخامة الرئيس الهندي راذا كريشنان ورئيس الوزراء جواهر لال نهرو وعدداً من كبار المسؤولين في الحكومة الهندية الموقرة ورافقه سعادة السفير إبراهيم الشطي مدير الإدارة السياسية في وزارة الخارجية والسيد عادل جراح مدير مكتب معالي الوزير. كما رافقهم في هذه الزيارة قنصل الكويت في بومباي السيد فيصل العيسى.
وبعد فترة من هذه الزيارة الناجحة تقرر افتتاح سفارة الكويت في دلهي، وتقرر تعيين السيد يعقوب عبد العزيز الرشيد سفيرا للكويت لدى جمهورية الهند الصديقة. وبحكم وجودنا في دلهي قمنا بواجب المساعدة في عملية فتح السفارة هناك.
وقد تحددت في نوفمبر 1964م الزيارة الرسمية لصاحب السمو الشيخ صباح السالم الصباح (رحمه الله) وكان في ذلك الوقت ولياً للعهد ورئيسا لمجلس الوزراء حيث قام بزيارة رسمية ناجحة للهند، وتجول ما بين دلهي وبعض المدن الهندية. وقد أقيمت لسموه (رحمه الله) احتفالات كبيرة تليق بمقامه في كل المدن الهندية التي زارها مما يدل على اهتمام الحكومة الهندية بتوطيد العلاقات مع دولة الكويت ويعكس متانة العلاقات الكويتية الهندية في ذلك الوقت ومازالت.
ومع انتهاء البرنامج التدريبي بالمعهد الدبلوماسي تم الاقتراح بأن نعود إلى الكويت بمعية سموه (رحمه الله) بطائرته الخاصة في 28 نوفمبر 1964م.
ومن الجدير بالذكر أنه من ضمن البرنامج التدريبي بالمعهد الدبلوماسي في الهند أن يقوم كل واحد منا بتقديم بحث يكون بمثابة الامتحان النهائي في المعهد، وقد اختار كل واحد من الإخوة الزملاء موضوعاً يكتب عنه، وكان اختياري تقديم بحث بعنوان: «The United Nations as a peace making agency» وكانت المشرفة على هذا البحث أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في المعهد التي شغلت منصب عضو في الوفد الدائم الهندي لدى الأمم المتحدة، ثم أصبحت سفيرة للهند في بعض الدول الأوروبية، وكان المشرف العام على البرنامج هو البروفيسور أجواني «Professor Agwani» وفي أثناء كتابة البحث طورت من نفسي، وخاصة في تعلم فن كتابة التقارير والتحليل السياسي.

شارك وزملاؤه في افتتاح سفارة الكويت في الهند وتعلم فن كتابة التقارير والتحليل السياسي

مرحلة مهمة بالعمل الدبلوماسي
 وعندما قام السيد فيصل العيسى بتسليم البحوث والتقارير النهائية من المعهد إلى السيد عبد الرحمن العتيقي وكيل الوزارة، وبعد قراءة السيد عبد الرحمن العتيقي لهذه التقارير متضمنة البحوث التي أعدها الزملاء تقرر تعييني بعد رجوعي إلى الكويت في الإدارة السياسية قسم الأمم المتحدة، وكان رئيس القسم هو محمد عبد العزيز الصالح، وكان معنا الأخوات غنيمة القطامي، وعادلة الساير، وليلى الغانم، وفيروز الغصين (فلسطينية)، والزميل نديم معاصري وهو لبناني الجنسية.
وقد عين الزميل أحمد العتيقي في الإدارة السياسية قسم الشؤون العربية، كما أعيد تعيين يوسف المنيس في المحفوظات، وباقي الزملاء تم توزيعهم على الإدارات الأخرى.
لقد كانت الهند مرحلة مهمة في حياتي صقلت مهاراتي السياسية، وجعلتني أستعد لرحلتي الدبلوماسية، إن فكرة إرسال مجموعة من الدبلوماسيين للتدريب في الهند فكرة صائبة فقد كانت هناك فرصة ذهبية للاطلاع على معالم وحضارة هذا البلد العظيم الهند، إضافة لما سنتعلمه في المعهد الدبلوماسي الهندي.
إن الهند بقيادة المهاتما غاندي، ومن ثم الزعيم الخالد جواهر لال نهرو، أخذت مكانها الطليعي بين دول العالم المتقدم فلقد أرسى نهرو أول رئيس وزراء للهند قواعد الاستقرار والنظام ووحد جميع الولايات على اختلاف دياناتها ولغاتها وأساليب معيشتها، وخلق منها دولة مستقرة وصلت في عصرنا الحالي إلى مصاف الدول الكبرى، وتُصنف على أنها من ضمن أكبر 10 دول صناعية في العالم بحسب تقارير صندوق النقد الدولي.
الهند كانت في عهد الحكم البريطاني تسمى درة التاج البريطاني، وكان فيها من الصناعات والحضارة والتاريخ الذي أعطاها ديمومة الحياة، وحرك فيها عجلة التقدم والازدهار في كثير من مناحي الحياة، وهي تمتاز بما تحتضنه من علماء ومفكرين وفلاسفة وعناصر متعلمة تقود مسيرة هذا البلد العملاق إلى الأفضل والأحسن.
وقد كنا محظوظين بأن نكون من طالبي العلم في الهند في تلك الحقبة الزمنية. فقد اعتقد كثيرون أن الهند سيصيبها الفشل والفوضى بعد وفاة الزعيم الهندي الخالد نهرو، وقد صدر بهذا الشأن العديد من الكتب التي تحدثت عن مستقبل الهند المظلم بعده، لكن ذلك الأمر لم يحدث فقد تسلم زمام القيادة زميله السيد شاستري، وأصبح رئيساً للوزراء، وسارت عجلة التقدم بانتظام بحسب قوانين وسياسات كان مخططاً لها، وكان يقف إلى جانبه رجال أوفياء للهند يتمتعون بكفاءة عالية وقدرات مميزة ويتسمون بالأمانة والإخلاص في العمل، وقبلوا هذا العمل وفاء لوطنهم الهند، فخطت الهند خطوات جبارة وحققت نجاحات في ميادين شتى.

أولى محطاته الدبلوماسية كانت في مدينة جدة بالسعودية

بداية العمل الدبلوماسي في جدة
ولأن هذه كانت أول بداية عملية لي خارج الكويت، فقد أوليت أهمية كبرى لعملي وأدائي لرفعة الكويت، ووضعت نصب عيني أن أكون ناجحاً في مهامي أمام السفير، وأن أتعلم كل ما استطعت من هذه المحطة الأولى في طريق الحياة الدبلوماسية التي استمرت عامين حتى يونيو 1967م في جدة.
وكان السفير الكويتي لدى المملكة العربية السعودية هو السيد عيسى عبداللطيف العبدالجليل (رحمه الله)، وهو أول شخص يصدر له مرسوم أميري ويُعين أول سفير في تاريخ الكويت بالمملكة العربية السعودية، وكان شخصية خلوقة يتعامل مع أعضاء السفارة كأبنائه، وكانت تجربته في الحياة السياسية والدبلوماسية قليلة، ولكن تجربته في الحياة العامة غنية بالخبرات والتجارب، فقد عمل في كثير من مرافق الدولة واكتسب الخبرات التي ساعدته على إنجاح مهمته سفيراً بالمملكة العربية السعودية.
لقد بدأت العمل بالسفارة في جدة، وقد كانت الأوضاع السياسية في المنطقة العربية ساخنة، وكانت أجواء الحرب في اليمن مخيمة على العلاقات المصرية السعودية، نتيجة لتدخل الجيش المصري لمساندة الثورة التي قادها عبدالله السلال ضد نظام المملكة المتوكلية في اليمن بقيادة الإمام محمد البدر حميد الدين.
ولقد كانت حرب اليمن للأسف الشديد تشكل عبئاً ثقيلاً على مصر، حيث تكبد الجيش المصري خسائر جسيمة من البشر والمعدات، الأمر الذي أضعف وأنهك الجيش المصري، واتضح ذلك جليا في حرب الأيام الستة مع إسرائيل في يونيو 1967م.

للرسالة التي أبلغه إياها رئيس «الصليب الأحمر» وحملها إلى الشيخ صباح الأحمد… قصة

دور الكويت وتراكم الخبرة
لقد كان للكويت دور مهم جدا في هذه الفترة، فقد كانت تلعب دور الوسيط لتهدئة الأمور بين مصر والمملكة العربية السعودية، وكان الشيخ صباح الأحمد (رحمه الله) وزير الخارجية آنذاك، يقوم بزيارات مكوكية (مستمرة) بين جدة والقاهرة، لمقابلة الملك فيصل آل سعود، والرئيس جمال عبدالناصر (رحمهما الله).
وقد تواجه الدبلوماسي عوائق كثيرة أثناء تنقله وعمله في السفارات حول العالم، وعلى الدبلوماسي أن يقوم بالتأقلم بحسب أوضاع البلد المبتعث إليه، لكي يقوم بعمله على أكمل وجه في خدمة وطنه، فعلى سبيل المثال، ولمن لا يعرف هذه المعلومة، كان الملك فيصل (رحمه الله) متقلداً لمنصب وزير الخارجية السعودي، ومن ثم فقد كان صعبا على بعض السفراء والدبلوماسيين مقابلة وزير الخارجية متى ما أرادوا: فقد كان في الواقع عليهم مقابلة الملك السعودي نفسه، مما جعل هذه اللقاءات صعبة، فمواعيد الملك فيصل محدودة، والتزاماته في إدارة شؤون المملكة كثيرة، لذلك كانت مقابلات أصحاب السعادة السفراء المعتمدين لدى السعودية تتم مع السيد عمر السقاف وكيل وزارة الخارجية الدائم، الذي أصبح فيما بعد وزير دولة للشؤون الخارجية.
وكان من حسن حظي أن عميد السلك الدبلوماسي في جدة هو سفير دولة الكويت السيد عيسى العبدالجليل (رحمه الله)، وكانت كل حفلات التوديع والاستقبال واللقاءات عنده بالسفارة، ولم يكن سعادة السفير يبخل علينا في يوم من الأيام بالمشورة عندما نستشيره بشيء، ولا يتردد في النصح والإرشاد، وكان دائماً إذا استقبل السفراء في مكتبه يقوم بدعوتنا للمشاركة، وكنت حريصاً على تلبية هذه الدعوات لأكتسب أكبر قدر من الخبرة الدبلوماسية. ومن هنا ومن خبرتي السابقة ومما تعلمناه في المعهد الدبلوماسي بالهند اغتنمت فرصة هذه اللقاءات للاستفادة من زيادة المعلومات، إذ يجب على الدبلوماسي أن يعي أن العمل الدبلوماسي يتم عن طريق تعاملاته مع أقرانه الدبلوماسيين في السفارات الصديقة والشقيقة.

إيصال المعلومة إلى الوزير
ومن الأمور التي على الدبلوماسي معرفتها أن يدرك أن من واجبه إيصال المعلومات إلى وزارة الخارجية في الكويت بكل صدق وأمانة ودون تحريف أو إضافات بغض النظر عن اعتقاده إن كانت المعلومة مهمة أم لا.
وهنا أتذكر حادثة حدثت لي أثناء وجودي في فندق البحر الأحمر، حيث عرف شخص عن نفسه بأنه رئيس الصليب الأحمر الدولي، وبلغني بوجود رسالة خاصة للشيخ صباح الأحمد (رحمه الله) وزير الخارجية في ذلك الوقت، وطلب مني نقلها شخصيا إليه، وخاصة أن الكويت كانت تقوم بدور الوسيط بين مصر والسعودية، وكان الشيخ صباح دائم السفر بين البلدين، فدعوته إلى الغداء لمعرفة المزيد عنه وما لديه من معلومات.
وكانت الرسالة عن رصد بعض المخالفات التي كان يقوم بها الجيش المصري في اليمن، وتم رصدها من قبل الصليب الأحمر الدولي، وهي أن المصريين قد استخدموا بعض الغازات السامة في حرب اليمن، لأنه، بحسب قوله، قد رأى من يعاني الحروق من جراء هذه الغازات، وهذا يعد أمراً خطيراً ولا يمكن أن يقبله الصليب الأحمر الدولي، وتكلم عن بعض التفاصيل الأخرى، فشكرته على هذه المعلومات وبعدها كتبت التقرير بخط يدي بعد الغداء مباشرة، ونقلته لسعادة السفير المرحوم عيسى العبدالجليل، ولم يكن يوجد في ذلك الوقت تلكس أو فاكس، فلابد من كتابة الرسائل ووضعها بالحقيبة الدبلوماسية لإرسالها إلى الكويت. وبما أن الموضوع يعد عاجلاً فقد تواصلت مع الوزارة باللاسلكي، وتم الاتصال بسعادة وكيل وزارة الخارجية في الكويت آنذاك المرحوم السيد عبدالرحمن العتيقي، وبالفعل طلب مني إيصال التقرير شخصياً للكويت، وقمت بالسفر الساعة السابعة صباحاً على طائرة كونفير التابعة للخطوط السعودية، فرنسية الصنع، من جدة إلى الرياض، ومن ثم إلى الكويت، حيث وصلت عصراً.
وقمت بمقابلة سعادة الوكيل صباح اليوم التالي من وصولي إلى الكويت، وسلمته الرسالة، وقرأها ثم قال لنذهب لمقابلة معالي الوزير، وعندها التقيت لأول مرة بالشيخ صباح الأحمد (رحمه الله)، وقام بقراءة الرسالة، وبهذا تم نقل المعلومات إليه وإلى الحكومة الكويتية بكل أمانة وصدق وبسرعة دون تأخير، وشكرني الشيخ صباح وأثنى على نشاطي.
وهذا المثال ذكرته لأن بعض الدبلوماسيين قد يتهاونون بالمعلومة، وقد لا يعطونها حقها بالنقل الصحيح وبالسرعة المطلوبة، فيجب عدم التهاون بأي معلومة يحصل عليها الدبلوماسي، ويجب أن يعي الدبلوماسي أن واجبه هو إيصال كل معلومة إلى رئيس البعثة للتقييم واتخاذ القرار المناسب.
وبعد مرور سنتين من العمل في جدة صدر قرار نقلي إلى سفارة دولة الكويت بواشنطن العاصمة في الولايات المتحدة الأميركية، لتكون محطتي الثانية في هذه القافلة الدبلوماسية.

حرب 1967 واستنفار دبلوماسي
وفعلا بدأت بالاستعداد لمغادرة المملكة العربية السعودية، وقمت ببيع سيارتي وأثاثي وتسليم الأعمال لزملائي بالسفارة، وأقيمت ليلة 4 يونيو 1967م حفلة لوداعي، حضرها مجموعة من الدبلوماسيين، واستمرت حتى وقت متأخر من الليل، وفي صباح اليوم التالي 5 يونيو 1967م استيقظنا على أصوات الحرب تعلنها إذاعات العالم بين إسرائيل ومصر وبعض الدول العربية، وقد شاركت الكويت بإرسال قوات عسكرية إلى الجبهة المصرية، وعندها وصلني سائق السفارة ليبلغني أن سعادة السفير يطلب مني العودة للسفارة في الحال، للمساعدة في عملية الاتصالات التي ترد للسفارة من البعثات الدبلوماسية المختلفة، ومحاولة معرفة الوضع بالجبهة في سيناء.
لقد كان شعوراً غريباً: ففي تلك الأيام لم يكن هناك نقل تلفزيوني مباشر، بل كنا نعتمد على النقل الإذاعي لمعرفة ما يدور في أقطار الأرض، وبالأخص ما يحصل في سيناء والجبهة المصرية، وهنا أود أن أذكر أن على الدبلوماسي في هذه الحالات أن يتحلى بالهدوء والتفكير بعقلانية، بعيداً عن تأثير المشاعر الجياشة التي قد تثيرها حرب أو معركة عربية إسرائيلية، وهو شيء صعب، ولكن بالممارسة والتدريب يمكن الوصول إلى مثل هذه الأمور.
فالمحلل للأمور والمتابع للأحداث قبل بداية الحرب يستطيع أن يستقرئ أحداث المستقبل، فمؤشرات الحرب كانت تلوح بالأفق، وأن الحرب واقعة لا محالة، فقد أعلنت مصر إغلاق مضيق تيران في خليج العقبة بوجه السفن الإسرائيلية، وهذا بالتفسير السياسي إعلان حرب، وهو ما لم تستوعبه كثير من الدول العربية وأنظمتها السياسية، ورأت فيه قوة وهيمنة مصرية.

حرب ٥ يونيو 1967 جعلته يكتشف حقائق غابت عنه

لقد كانت الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها مخدوعة بالإعلام العربي الموجه، وما كان ينشره ويذيعه من أخبار وروايات بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع على أرض المعركة، ففي اليوم الأول للحرب كان راديو صوت العرب وبصوت المذيع أحمد سعيد يعلن عن إسقاط مئات الطائرات الإسرائيلية في الساعات الأولى للحرب، وكان يذيع خلال الأيام الأولى للحرب أن القوات البرية المصرية كانت على مشارف القدس وتل أبيب، والحقيقة كانت عكس ذلك تماما، وأن الجيش الإسرائيلي كان قد وصل إلى مشارف قناة السويس، واحتل القدس والجولان وجزءاً من الأراضي اللبنانية.
إن من واجب الدبلوماسي، كل في موقعه، أن يحلل مثل هذه الأخبار بواقعية، فالجيش المصري كان منهكاً ومتهالكاً بعد حرب اليمن، ومن غير المعقول أن يكون قادراً على الوصول إلى القدس متجاوزاً الجيش الإسرائيلي بهذه السهولة وبهذه السرعة.
فالنتيجة الحتمية لحرب 1967م لم تكن بسبب القوة العسكرية الإسرائيلية وحدها إنما كانت بسبب ضعف الجيوش العربية وعدم استعدادها لحرب شاملة مع إسرائيل، ولم يكن هناك أي تنسيق مسبق للمعركة بين قيادات الجيوش العربية، ما نتج عنه الخسارة على كل الجبهات، واستشهاد الكثير من الشباب الكويتي والمصري والعربي.
لقد اكتشف العرب هذه الحقائق أخيراً بعد أن قرأوا ما نُشر عن هذه الحرب عند الغرب، واتضح التأثير الحقيقي للهزيمة. لقد كانت فعلا نكسة وأكبر هزيمة للعرب في حربهم مع إسرائيل.
أدى نشوب الحرب العربية الإسرائيلية إلى تأخري حوالي أسبوع في جدة، فقد أغلقت الأجواء للطيران المدني أثناء الحرب، فاضطررت إلى أخذ طيران داخلي من جدة إلى الدمام، ومنها أخذت سيارة متجهاً شمالاً سالكاً الطريق البري إلى دولة الكويت.
 

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.