
أثارت المنافسة بين البادية والمزارعين الهوية الدينية في غرب أفريقيا بينما أشعلت الهوية العرقية في شرقها
عبد الله علي إبراهيم
نزاع دارفور يسم منطقة الساحل الصحراوي الرعوي الركيك المعرض لنازلات الجفاف الذي يطمع في خيرات أرض السافنا متى أدركه الكرب.
لو لم نحمل المواجهة المنتظرة بين أميركا ونيجيريا محملها الديني كمسلمين ضد مسيحيين الذي اتفق للأميركيين لكان الرئيس دونالد ترمب قد أمسك بجذر أزمة السودان التي قال إنه سيوليها عناية مباشرة خصوصاً بعد تزكية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، له بذلك. فعظمة الصراع في نيجيريا كما في السودان هي المنافسة على الموارد بين المزارعين والرعاة في منطقة الساحل الأفريقي. وهو النزاع الذي أيقظ فتن العرق والدين. فإن أثارت المنافسة بين البادية والمزارعين الهوية الدينية في نيجيريا فجعلت الصراع فيها صليبية فإنها أثارت في السودان الهوية العرقية فصار منتنة بين عرب وأفارقة.
ونعرض لمنشأ حرب دارفور الشقية الطويلة لتقريب فكرة أن الذي وراء الصراعات الدامية في الساحل هو نزاع إيكولوجي بيئي بين البادية والمزارعين. وهو نزاع يسم منطقة الساحل الصحراوي الرعوي الركيك المعرض لنازلات الجفاف، الذي يطمع في خيرات أرض السافنا متى أدركه الكرب. وأحاط به أهل دارفور من فرط قدمه ومساسه الكبير بحياتهم بوصفه نزاعاً بين “الجرون” (موضع دراس الحبوب بالمزرعة) و”القرون” (كناية عن البادية بحيوانها). وقالوا إنه مما يفضي إلى الصدام لا محالة. ونعرض لمنشأ حرب دارفور الشقية الطويلة لتقريب فكرة أن الذي وراء الصراعات الدامية في الساحل هو نزاع إيكولوجي بيئي بين البادية والمزارعين.
تمثلت الصحراء، القرون في بادية العرب وزرقة (أفارقة) الزغاوة بشمال دارفور بينما تمثلت الواحة، الزراع إلى جنوبهم في دار شعب الفور والمساليت، وهم معدودون في الزرقة. وقد وصف الدكتور شريف حرير شعب الفور بأنه مصاب بـ”لعنة الموقع الاستراتيجي”. فهم أهل الواحة وهي المنطقة الوسطى المستقرة إيكولوجيا في الولاية من فوق وحول جبل مرة وتتميز بخصوبة الأرض وتوفر الأمطار والمياه السطحية والجوفية. وهي بذلك الواحة التي تقصدها بادية الأبالة الشمالية القاحلة في مراحيل الصيف من مايو (أيار) إلى يونيو (حزيران) وتتركها في مراحيل الخريف من يوليو (تموز) إلى سبتمبر (أيلول). وتقصدها جماعة الزغاوة الأفريقية من شمال دارفور في السنين العجاف في مرحال موسمي اسمه “جول بري”. وقال شريف لو إن الزغاوة لم تدبر حالها بغير حاجة إلى مواجهة المزارعين كما فعل الرعاة العرب لاحقاً لكانوا جنجويداً زرقة لا عرباً.
كانت حكمت وفود البادية العربية والزغاوة إلى دار الفور، أعراف مرعية ومنافع متبادلة القيم عليها شيوخ العرب والزغاوة وعمد الفور. فبمقتضى تلك الأعراف يطلق الرعاة نعمهم في ما تبقى من القش بعد حصاد المزارعين الفور لزرعهم حذرين ألا تتطفل حيواناتهم على أشجار المزارعين الثمرية.
كما يشهد نزوح الرعاة ذلك تجارة رابحة بينهم وبين المزارعين من الفور وغيرهم. ووصف كاتب رحلات البداة قديماً إلى واحات المزارعين فقال إن ما بين الجماعتين كان مثالياً في حسن الوفود والنزول أهلاً. فالبادية تجند ناظرها وأهله والخفراء والمناديب والأدلاء والشيوخ والعمد لمتابعة مرحال البادية بين المزارعين حتى لا تعبر الأنعام “الكلنكاب”، وهو الحد بين المرحال (القرون) والزرع (الجرون). وكان البدو والزراع يتبادلون السلع: فقد تدفع بهيمة مقابل سكر وشاي، أو لبن الروب (اللبن) مقابل فقوس ودقيق. وتسمد البهائم أرض الحقول بروثها. وللبداة حلفاء بين الزراع يأتون لهم بالهدايا ويأنسون بهم وبإكرامهم.
أما اللعنة على الفور فنزلت حقاً بعد تفاقم الجفاف على أبالة شمال دارفور ومزارعيها بعد عام 1985 كأثر من الجفاف الذي ضرب الساحل في السبعينيات. فلم يعد شمال دارفور صالحاً للسكنى والعيش في أي من مواسمه بعد تلك السنة. لقد أضحى إقليماً طارداً يريد أهله استبداله بوطن جديد. واصطدم هؤلاء الباحثون في بحثهم عن وطن جديد بأعراف تملك الأرض بين المزارعين الذين لم يريدوا لهم السكن الدائم بينهم بدل مجرد المرور بهم في رحلة موسمية كما كان الأمر قديماً. وفاقم أمران من أزمة البادية العربية في شمال كردفان.
أما الأمر الأول فإنه لما احتاج الرعاة العرب للحكومة لم يجدوها. فكانوا تقدموا باسم “التجمع العربي” بمذكرة إلى السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء، عام 1987. وفيها طالبوا بتمثيل في السلطة بدارفور والمركز تمثيلاً يتناسب وحجمهم عدداً وثروة في الوطن. فدارفور هي الولاية التي ساد فيها الزرقة على العرب على مر التاريخ القديم والمعاصر. وقد منعت العرب بداوتهم الموغلة من انتهاز فرص التعليم والترقي في مدارج الدولة في حين حاز ذلك زرقة القرى. وقد نال الزرقة على عهد السيد الصادق وحزب الأمة جملة مواقع في السلطة بالإقليم مما نبه العرب إلى المطالبة بالتمثيل العادل من حزبهم الحاكم. ولم تستجب لهم الحكومة. وجاءتهم دولة الإنقاذ وهم في مأزقهم الوجودي فجندتهم في منظومتها الأمنية لمحاربة “تمرد” الحركات المسلحة، التي غلب فيها الزرقة، عليها.
ولم تنصرف الحكومة وحدها عن محنة الرعاة العرب. فانتبذهم حتى المعارضين خلال فترة الإنقاذ. فرجعوا لمذكرتهم تلك وأفرغوها من مظلوميتها. وعدها سليمان حامد، القائد الشيوعي المخضرم، مكراً مخططاً لنزع العرب أرض الزرقة بعدما وجدوا سانحتهم في دولة الإنقاذ التي خدموها كمخلب قط. وكانت تلك أضغاثاً معارضة للإنقاذ لا نظراً نافذاً لمسألة ستكون لها عواقبها الوخيمة على السودان.
المصدر: صحيفة التغيير
