منذ بدايات النزاع اواسط السبعينات، اختارت قيادة البوليساريو تعليق مصير مشروعها السياسي على ما سُمِّي “الأغنية الثورية”، معتبرة أن الأهازيج الحماسية قادرة على تعبئة الصحراويين وإقناعهم بأن “النصر” قريب، رغم غياب أي مقومات للدولة أو التخطيط الواقعي. لكن التجربة أثبتت أن الأغنية، مهما علا صوتها، لا تُقيم كيانًا ولا تُشيّد مؤسسات، وأن الاعتماد على الخطاب الغنائي الحماسي بدل المشروع التنموي لم يكن إلا دورانًا في حلقة الوهم. ويكفي استحضار مثال ابنة عمنا الفنانة العظيمة مريم منت الحسان التي قضت عمرها للأسف في خدمة هذا المسار التعبوي دون تحقق أي تقدم ملموس، لنعرف أن الحماس لا يعوّض غياب الرؤية، خصوصًا في ظل بروز مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحته المملكة المغربية، باعتباره حلًا سياسيًا جادًا وعمليًا في حين بقيت الجبهة أسيرة الشعارات.
ومع مرور الزمن، تبيّن أن كثيرًا من هذه الأغاني لم تكن فقط حماسية، بل كانت محشوة بخطاب قدحي وعنصري تجاه أبناء المملكة المغربية، وكأن شيطنة “الآخر” هي الطريق إلى بناء دولة. فقد سادت في العديد من أعمال الفن الثوري أوصاف تحقيرية للمغاربة وسخرية من لهجتهم ومؤسسات دولتهم، ونعوت تُغذي الكراهية وتنسف أي إمكانية لخلق جسور أو بحث عقلاني عن حل. وفي الوقت الذي كانت فيه المملكة تعرض مشروع الحكم الذاتي كتصور متقدم وواقعي يحفظ كرامة الصحراويين في إطار سيادة وطنية، كانت قيادة البوليساريو ترفع منسوب التحريض الغنائي، وكأن السبيل لمواجهة حل سياسي عملي هو إنتاج المزيد من الشعارات والأهازيج.
ولم يتوقف هذا الخطاب عند حدود مهاجمة المؤسسات المغربية، بل تجاوز ذلك إلى تصوير الإنسان المغربي نفسه كخصم وجودي، وهو توجه غذّته بعض الأصوات الفنية داخل المخيمات. فقد تضمنت أغاني معروفة رسائل تُظهر المغاربة كغرباء أو دخيلين على الصحراء، وتصف أبناء الأقاليم الجنوبية المتمسكين بمغربيتهم بالخيانة، وتنتقص من الرموز الوطنية. وبموازاة هذا الخطاب الإقصائي، كانت المملكة المغربية تراكم الدعم الدولي لمشروع الحكم الذاتي كأفق سياسي واقعي، بينما بقيت الجبهة رهينة عقلية الارتباط بالوهم والسراب، دون أن تحدد مشروعًا حقيقيًا أو رؤية مستقبلية لأجيالها.
هذا الخيار جعل الأغنية الثورية عمود الخطاب أدى إلى نوع من “التنويم الجماهيري” داخل المخيمات، حيث تُضَخ جرعات من الحماس المؤقت بينما تغيب المشاريع الاقتصادية والرؤية المؤسساتية. لقد تحولت الأغاني إلى غطاء لإخفاء فشل التدبير ووسيلة لتحنيط الوعي السياسي عبر تكرار عبارات لم تغيّر شيئًا على الأرض. ومع بروز مشروع الحكم الذاتي باعتباره الحل الأكثر جدية وإشادة على المستوى الدولي، أصبحت البوليساريو في وضع أكثر ارتباكًا، لا تعرف ما إن كانت ستواصل خطاب الرفض أم ستبحث عن مخرج يحفظ ما تبقى من شرعيتها.
في المقابل، اعتمدت المملكة المغربية نهجًا بعيدًا عن التنويم بالشعارات. فبدل تعليق مصير المجتمع على الإيقاعات الحماسية، اشتغلت المملكة طيلة خمسين سنة على بناء الإنسان والبنية التحتية والمؤسسات. فشهدت الأقاليم الجنوبية نهضة في الموانئ والطرق والمراكز الجامعية والمشاريع الاجتماعية، إلى جانب استثمارات جعلت المنطقة نموذجًا للتنمية. وأصبح مشروع الحكم الذاتي هو الإطار السياسي الذي يُترجم هذه الرؤية الواقعية، جامعًا بين احترام خصوصيات الصحراويين وتثبيت سيادة المملكة، في نموذج يعترف به المجتمع الدولي كحل جاد وذي مصداقية.
واختارت المملكة المغربية طريقًا طويلًا لكنه ثابت، يقوم على التنمية والاندماج الوطني والإقلاع الاقتصادي، بدل الاكتفاء بالخطابات أو استعمال الفن سياسيًا. فالغناء داخل المملكة ظل فنًا يعكس التراث الحساني ويكرّس التعدد الثقافي، ولم يتحول يومًا إلى وسيلة لتضليل المجتمع. وبينما كان الفن الثوري في المخيمات بتندوف يغذي الانقسام والإيهام، كان الفن في المملكة يعزز الهوية الوطنية ويدعم الارتباط الإيجابي بين المواطن ومحيطه.
وبعد خمسين عامًا من العمل المتواصل، وصلت المملكة المغربية إلى نتائج كاملة غير منقوصة: أقاليم مزدهرة، مجتمع مندمج، دينامية اقتصادية قوية، وحل سياسي واضح المعالم يتمثل في الحكم الذاتي، يحظى بدعم دولي واسع. وفي الجهة المقابلة، لم تُثمر عقود من الغناء الثوري لدى البوليساريو أي تقدم، وظلت مرتبطة بلا رؤية، ومرتبكة بلا مشروع، وعاجزة عن تحديد مستقبلها. ويصبح الدرس واضحًا: الدول تُبنى بالاستراتيجيات وبالمشاريع، لا بالأغاني الثورية مهما ارتفع صوتها أو تكررت شعاراتها.
المصدر: العمق المغربي
