أفرغ الدبلوماسي الكويتي سليمان الفصام خلاصة تجاربه الدبلوماسية التي امتدت على نحو 40 عاماً في كتاب صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات الكويتية تحت عنوان «40 عاماً… رحلة مع قافلة الدبلوماسية». ويعتبر الفصام أن العمل الدبلوماسي مهم ومفيد، لكنه شاق ويحتاج إلى الجد والمثابرة وتحليل عميق وفهم لمعني الحياة الدبلوماسية. وبقدر ما فيها من منافع وفوائد، فإنها لا تخلو من المعاناة والمصاعب، وأهمها مسألة تعليم الأولاد خلال التنقل من دولة إلى ثانية، والترحال من بلد إلى آخر، وكذلك الغربة والابتعاد عن الوطن فترة زمنية طويلة قد تكون سبباً في انقطاع الصلات الوثيقة بين الدبلوماسي وأصدقائه في الكويت. ويشير، في كتابه، إلى مفهوم غير صحيح لدى البعض عن الدبلوماسية، حيث يسود اعتقاد بأنها نوع من الجاسوسية، وهي في حقيقة الأمر عمل مميز لتقوية العلاقات وتبادل المنافع وبناء الجسور بين الكويت والدول، وهذا هو المفهوم الصحيح للدبلوماسية. وحرص السفير الفصام على إيراد أمثلة لكيفية بناء العلاقات وحلّها وإدارة الأزمات وإعادة تطبيع العلاقات، مسلطاً الضوء على دور دولة الكويت في الوساطة بين دولة وأخرى، وكونها طرفاً فاعلاً ضمن عمل سياسي جماعي.
من الدرعية إلى الكويت
تنتمي عائلة الفصام إلى قبيلة الدواسر في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية إلى أحد البطون المعروفة «المساعرة». واستقر بعض أفراد العائلة في مدينة الدرعية.
ومن هناك هاجر عبدالرحمن سليمان الفصام إلى الكويت، وكانوا من أوائل العوائل التي استقرت في الكويت، فقد وصل عبدالرحمن الفصام إليها وفي ذريته ابنه تركي الذي أنجب ثلاثة أولاد هم: سليمان ومحمد وعبدالله، الذين أنجبوا بدورهم الذرية لأسرة الفصام في الكويت بحسب شجرة العائلة.
ومضى على وجود عائلة الفصام منذ وصولها إلى الكويت أكثر من 250 سنة، وتعاقبت الأجيال منها جيلاً بعد جيل إلى يومنا الحاضر، وانصهرت العائلة في المجتمع الكويتي البحري، وامتهنوا السفر والغوص والتجارة، وقد كان المجتمع الكويتي البحري مجتمعاً متكاتفاً ومتلاحماً تحمّل ظروف المعيشة القاسية، وخصوصاً في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط في دولة الكويت.
نشأ في منطقة شرق فريج النصف مجاوراً عوائل النصف والعصفور والغانم والخطيب والفضالة
مهنة الغوص والسفر
وقد مارس معظم أهل الكويت النشاط البحري، الغوص والسفر. ومهنة الغوص مهنة صعبة وشاقة تستمر لمدة 3 أشهر خلال فترة الصيف، حيث تخرج سفن الغوص بحثاً عن اللؤلؤ من شواطئ مدينة الكويت إلى مواقع مختلفة عند سواحل منطقة الجليعة وأمام بر العدان متجهين جنوباً إلى حدود البحرين تقريباً. وكانوا يبحرون في سفن خشبية مصنوعة بالكويت مثل البتيل والجالبوت والشوعي، وهي سفن شراعية متوسطة الحجم تستخدم للغوص فقط.
ومن ثم يبدأ موسم السفر من سبتمبر لمدة تسعة أشهر، حيث يسافرون في السفن الشراعية إلى البصرة والهند وشرق إفريقيا وعدن وعمان وموانئ الخليج العربي ويستخدم الكويتيون سفناً كويتية الصنع كبيرة الحجم مثل البوم السفار.
ويتضح هنا قِصَر الفترة التي يقضونها في المنزل بين أهلهم: فالوالد وجميع أفراد العائلة امتهنوا مهنة السفر والغوص في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وبعد كساد تجارة اللؤلؤ الطبيعي وظهور اللؤلؤ المزروع توقفت مهنة الغوص عن اللؤلؤ. أما مهنة السفر فقد بدأت تدريجياً بالانتهاء، بعد أن بدأت تباشير اكتشاف النفط في الكويت، حيث امتهن بعد ذلك الكثيرون من البحارة التجارة. فكان لكل من والده سالم وعمه إبراهيم (يرحمهما الله) محل للتجارة في سوق الغربللي. أما عمه تركي فظل في مهنته في البحر لفترة، وقد كان أحد نواخذة الكويت، وبعدها عمل موظفاً لدى حكومة دولة الكويت.
له 3 أبناء وبنتان… طلال سفيراً ونورة وزيرة
أما نحن جيل الشباب في أوائل الخمسينيات فقد كانت حياتنا منظمة ومرتبة وموزعة بين الدراسة والعمل في العطلة الصيفية، مما نتج عنه صقل لشخصياتنا، الأمر الذي رسخ في تربيتنا وأذهاننا الاعتماد على النفس وبناء الشخصية المستقلة التي لا يوجد فيها الإسراف ولا الكسل ولا الاعتماد الكلي على العائلة، وعرفنا قيمة المال الذي كنا نحصله بالتعب والشقاء فلا يتم صرفه إلا فيما يفيد.
تلك المرحلة كانت فيها العائلة ترتاد البحر وهم معروفون في الأوساط البحرية وبين التجار، «وهذا الجزء من نشأتي صقل شخصيتي». إن حياة الإنسان كل لا يتجزأ، لأن ارتباط فصولها بعضها ببعض يشكل كياناً واحداً: الحياة الثقافية ترتبط بالحياة السياسية، مما ينتج عنه سلوك اجتماعي تتكون فيه شخصية الفرد وتتميز به. «لقد تربى جيلنا نحن في بيئة حاضنة للأدب والعلم والثقافة نشأ على التفاني في حب العمل الجاد والإخلاص في أداء الرسالة والمثابرة في تحصيل العلم وزيادة المعرفة ومتابعة التطور بفكر مستنير وعقل مدرك لما يدور حوله من متغيرات يقود إلى الحقيقة، ويعالج المعضلات بواقعية بعيداً عن المهاترات والأهواء الشخصية ذات المصالح الذاتية الآنية الصغيرة فالحياة فكر وعقل وتدبر». فمن يعايش الحياة بدون فكر فإنه لا يملك العقل ومن لا يملك العقل فإنه غير قادر على أن يدبر أموره. فالحياة لا ترحم، وعلى الإنسان أن يكون دائماً يقظاً ومستعداً لمواجهة متطلباتها.
بين الكتاتيب والمدرسة المباركية
كان الوالد سالم (يرحمه الله) توفي في 1994/9/5 ذا شخصية فريدة طوال حياته، فقد كان جدي سليمان مهتماً وحريصاً على تعليم أبنائه في ذلك الزمن، وفي بداية القرن العشرين لم يكن هناك تعليم نظامي في الكويت، فبدأ والدي تحصيله التعليمي عند الكتاتيب أو المطوع، كما يسمى باللهجة العامية الكويتية، وتعلم القرآن والكتابة، إلى أن افتتحت المدرسة المباركية أواخر سنة 1911م.
وبحسب ما نشر في كشوف الأسماء المذكورة في أرشيف المدرسة المباركية التي نشرت لاحقا في كتاب صدر عن وزارة التربية والتعليم في الكويت عام 1962م بمناسبة اليوبيل الذهبي للمدرسة المباركية، كان الوالد ضمن الذين درسوا في الدفعة الأولى التي التحقت بالمدرسة المباركية وتعلم فيها القراءة والكتابة والحساب.
وكان الوالد يرحمه الله مهتماً وحريصاً على أن يكون له نصيب من التعليم، وذلك حفاظا على مستقبله مع أن مهنته كانت في الغوص والسفر، ولكونه متعلماً ولأنه يجيد الحساب كان مميزاً عن أقرانه البحارة على السفينة فصار مسؤولاً عن كتابة الرسائل ومسك الدفاتر والحسابات على متن السفينة.
وقد كان الوالد منذ طفولته يعيش في بيئة نظيفة، وكان صاحب فكر مستنير وقد حرص والده على أن يجعله متعلماً يسبق أقرانه في الكثير من الأمور، وكان هو حريصاً على التعلم، وقد اتسمت شخصيته بالالتزام والهدوء والأمانة والابتعاد عن إثارة المشكلات، فأحاطه المجتمع بهالة من الاحترام والتقدير لكونه محباً للعلم والهدوء ويكره الجدل العقيم والثرثرة، ويفضل أن يكون المستمع الجيد أكثر من أن يكون المتكلم. وهذه الصفات نقلها لنا في حياتنا، وكان حريصاً على أن نتعلم، ودائما كان يردد قول الشاعر أحمد شوقي:
العلم يبني بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيت العز والشرف
وقد علّمني كثيراً من الصفات الحسنة التي تسلحت بها طوال حياتي وفي أثناء عملي الدبلوماسي. كما تربيت على مبادئ الوالد وانتهجت مسلكه في الحياة وحرصه على الصدق والأمانة والالتزام بالمثل العليا وعدم التعرض للناس: فقد كان كما يقول المثل الكويتي العامي كاف عاف، لا علاقة له بالمشكلات الاجتماعية، يحرص على المعرفة والتواصل مع الناس، وكان جليساً دائماً في ديوانية النصف في شرق، وله أصدقاء محترمون على مستوى رفيع ومجلسهم مجلس رجال، وقد نقل لي هذه النصائح بالاتزان واحترام الكبار في المجلس والاستماع لكلامهم.
من «ثانوية الشويخ» إلى واشنطن ونيل البكالوريوس في العلوم السياسية
العلم وتربية الأولاد
وأنا بدوري ورثت هذه الصفات لأبنائي وبناتي بعد الزواج من زوجتي المرحومة شيخة حمد عبدالرحمن الصانع (رحمها الله وأسكنها فسيح جناته)، فقد كانت هي رفيقة الدرب، حيث خططنا بأن يكون العلم والتربية لأولادنا هما الأساس، بالرغم من تنقلنا من بلد إلى بلد، وفي ظروف تختلف في أجوائها وصعوبة المعيشة فيها، ومن مناهج وأنظمة دراسية متنوعة ومختلفة، ولكن التعليم كان يشكّل هاجساً لنا، وكان علينا أن نلتزم بالصبر لنوفر لأبنائنا تعليماً منتظماً لهم.
وفي حقيقة الأمر، وللشهادة كانت زوجتي أم طلال الإنسانة التي تعبت وعملت بجد وعانت من الأسفار من بلد تلو الآخر ومن مجتمع إلى آخر، ولكنها تحملت بصبر وإيمان، ولله الحمد رزقنا بثلاثة أولاد وابنتين، طلال ووائل ونورة ومي وناصر. وقد حرصنا على تربيتهم بقدر ما حرصنا على تعليمهم، وقد أثمرت هذه التربية والتعليم بحمد الله باستكمال تعليمهم العالي، والآن كلٌّ يقوم بواجبه في خدمة الوطن، وقد تبوأوا مناصب رفيعة المستوى بشتى المجالات في القطاعين العام والخاص.
فطلال يشغل منصب سفير دولة الكويت لدى جمهورية النمسا، والمندوب الدائم لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في فيينا، وكذلك نورة فقد تم اختيارها لتولي منصب وزيرة المالية وزيرة الدولة للشؤون الاقتصادية والاستثمار ووزيرة النفط بالوكالة.
منطقة شرق وفريج النصف
نشأت في منطقة شرق فريج النصف، ولقد ولدت في 23 أبريل 1938م وترعرعت بين الأهل، وكان الفريج (الحي) يضم مجموعة من العائلات: منهم بيت الفصام والنصف والعصفور وسعد الجاسر الغانم والخطيب وعلي بن حمد الفضالة.
كانت التربية في بيئة حاضنة للعلم والأدب والفكر المستنير، وللجيران في ذلك الزمان قدسية خاصة، فقد كانوا بمنزلة الأهل، وقد خلق هذا فينا روح المحبة والتعاون والتآلف، فأصبحنا مجموعة واحدة، خصوصاً لتقارب الأعمار بيننا.
في السابق كان التعليم عند المطوع، أو ما يسمى ب «الكتاتيب»، وذلك قبل التعليم النظامي، وقد كنا ندرس عند المطوع (الملا محمد) القرآن الكريم واللغة العربية والحساب. ومن ثم انتقلنا إلى المدرسة الشرقية (الأميرية) عام 1365ه/ 1946م لمدة أسبوعين، ولضيق المكان في المدرسة تم نقل صف أولى روضة إلى بيت الناهض الذي تم استئجاره لهذا الغرض، وكنا من المجموعة التي نقلنا هناك، وكان معنا صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت الحالي (حفظه الله ورعاه) والأخ أحمد سعد الجاسر القائم، والأخ سالم محمد النصف والأخ محمد حمد النصف (يرحمهما الله)، والأخ خالد بن جاسم النصف والمرحوم يوسف إبراهيم الفصام والأخ يعقوب خالد المطوع ومجموعة كثيرة من الزملاء، وبعد انتهاء السنة الدراسية نقلنا إلى المدرسة الشرقية الجديدة المطلة على البحر على شارع الخليج العربي والتي أصبحت الآن معهد الشيخ سعود الناصر الصباح الدبلوماسي، والجدير بالذكر أنه قد تم تحويل المدرسة الشرقية الأميرية القديمة إلى مدرسة للبنات في سنة 1947م.
وبعدها انتقلنا إلى المرحلة الثانوية التي كانت مدتها 5 سنوات، حيث التحقنا بثانوية الشويخ في سبتمبر من سنة 1954م، وكان قد مضى على افتتاحها سنة، ولم يكتمل البناء كله بعد، فدرسنا في صفوف الشبرة (مبنى مؤقت مسقوف من الكيربي) وهي عبارة عن سبعة صفوف لأولى ثانوي تضم مجموعة من الطلبة من كل مدارس الكويت، ومنها الشرقية والأحمدية والقبلية والشعيبة والفحيحيل، وقد كان نظام السكن الداخلي معمولاً به لمن يرغب في السكن داخل ثانوية الشويخ.
حياته الشبابية توزعت بين الدراسة والعمل في العطل الصيفية
بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية تفرقنا للدراسة في الخارج، كل بحسب اختصاصه.
ولكن تكوين الصداقات والعلاقات بدأت في المدرسة الشرقية، وتشكلت صداقات جديدة مع المجموعة التي التقينا معهم في الثانوية، ومن هؤلاء الأخ العزيز والصديق الصدوق المرحوم جاسم محمد عبدالرحمن البحر، والأخ العزيز والصديق الصدوق المرحوم دخيل عبدالعزيز العصيمي، والأخ العزيز الصديق الصدوق ناصر محمد الهاجري، ومازالت هذه الصداقات مستمرة إلى يومنا الحاضر.
وأكملت الدراسة في وقت لاحق في الجامعة الأميركية في واشنطن في الولايات المتحدة الأميركية، وحصلت على بكالوريوس علوم سياسية وعلاقات دولية ودبلوم إدارة بعد الجامعة.
وأود أن أذكر هنا أنني لم انتسب في حياتي لحزب سياسي أو تيار سياسي. كنت أرفض أن أكون أسيراً لأفكار الأحزاب السياسية الضيقة، ولا أقبل أن تحكمني قرارات وتعليمات التيارات السياسية المتناقضة، بل كنت حراً طليقاً بعيداً عن المهاترات الحزبية والمناقشات البيزنطية والادعاءات الكاذبة البعيدة كل البعد عن الوطنية الحقة.
وبالرغم من ذلك كنت شغوفاً بالعمل السياسي، فالتحقت بوزارة الخارجية في الكويت، وهنا بدأت رحلتي مع القافلة الدبلوماسية.
كان الوالد سالم يرحمه الله ذا شخصية فريدة طوال حياته، فقد كان جدي سليمان مهتماً وحريصاً على تعليم أبنائه في ذلك الزمن، وفي بداية القرن العشرين لم يكن هناك تعليم نظامي في الكويت، فبدأ والدي تحصيله التعليمي عند الكتاتيب أو المطوع، كما يسمى باللهجة العامية الكويتية، وتعلم القرآن الكريم والكتابة، إلى أن افتتحت المدرسة المباركية أواخر سنة 1911م.
وبحسب ما نشر في كشوف الأسماء المذكورة في أرشيف المدرسة المباركية التي نشرت لاحقا في كتاب صدر عن وزارة التربية والتعليم في الكويت في عام 1962م بمناسبة اليوبيل الذهبي للمدرسة المباركية، كان الوالد ضمن الذين درسوا في الدفعة الأولى التي التحقت بالمدرسة المباركية وتعلم فيها القراءة والكتابة والحساب.
المصدر: جريدة الجريدة
